15 قصة قصيرة لناجي ظاهر

3/29/2019 12:24:16 AM بواسطة حسين


1-

جدعان الحارة
قصة: ناجي ظاهر
الحوت والقرش.. اسمان ترددا في حياتنا نحن ابناء الحارة الشرقية، وكثيرا ما كان موضوعا اثيرا لدينا، فطالما سهرنا الليالي نتناقل اخبارهما، وكان كل منا يصُف في جانب احدهما، بل انني اتذكر اننا كثيرا ما تعالقنا بالأيدي وكسّر بعضُنا بعضا، لولا تدخل من وقف جانبا مفضلا الامان والسلام من ابناء الحارة.. في فض الاشتباكات بيننا. مما اتذكره اننا انقسمنا ذات ليلة مقمرة الى فريقين، كل منها يدّعي ان احد الجدعين اقوى من الاخر، وانتهت الليلة بان حطّم بعضُنا بعضًا.. وكاد يستنجد بمن وقف في صفه وتغنى بأعماله العظام وشجاعته الخارقة.
بعدها انفض كل منا الى طريق، وعاد مفكرا فيما يمكنه ان يفعله من اجل معبوده البطل، وكان ان حمل كل منا، نحن رئيسي الفريقين، انا وصديقا لي، فكرةً ما فتئ ان طرحها في القعدة الحاراتية في المساء التالي، وكان مفادها انه يفترض فينا ان نتوجه، هو الى قرشه وانا الى حوتي، سائلين كلا منهما عمن هو الاقوى والاشجع بينهما. ما ان طرحت هذا السؤال على محبوبي الحوت، حتى ربّت على كتفي، انا الفتى الصغير قائلا انه لم يفكر في هذا الموضوع من قبل، وانه سيبلغني بما يمكن ان يتوصل اليه خلال يوم او بعض يوم. ما ان نطق بهذه الكلمات حتى ارتاحت اساريري، وتوجهت الى رئيس الفريق الآخر المنافس. وقفت امامه وقفة من يتحدى خصما قويا شرسا، واخبرته انني انتظر اجابة الحوت، وانه وعدني بان يقدم الي اجابته خلال فترة قصيرة. ضحك الفتى الواقف قبالتي.. بعدها انفجر في ضحك متواصل، ما اضطرني لأن اطلب منه ان يُطوّل روحَه وان يخبرني بما اضحكه كل ذاك الضحك، فما كان منه الا ان ركض في عدة اتجاهات، معبرا عن حيرته وقال لي، انه سمع من قرشه نفس ما سمعه مني، وانه ينتظر الاجابة بعد يوم او بعض يوم.
توجهنا، رئيس فريق القرش وانا رئيس فريق الحوت، في الموعد المحدد لنا مع شجاعينا العظيمين، وكان ان جرى بيننا الحديث التالي:
انا: هل توصلت الى اجابة.. من هو الاقوى بينكما انت والقرش؟
هو: وهل هذا سؤال؟ انا بالطبع الاقوى.
فكرت فيما يمكنني ان اقوله لفريق الحوت، فريقي، والقرش، فريق ابن حارتي وخصمي، وتوصلت بعد امعان في التفكير وسباحة مضنية في بحوره، الى ان اجابته هذه قد توقعني في حيرة اكبر من سابقتها، كونها لم تضف جديدا، فعدت اسأله:
-وكيف يمكنني ان أتأكد من انك انت الاقوى؟
عندها غرس الحوت عينيه في:
-هل تريدني ان اواجه القرش.
انطلق لساني رغما عني:
-وهل هناك حلٌّ آخر.. لمعرفة من الاقوى بينكما؟
خلافا لكل ما توقعته.. ربت الحوت على كتفي وهو يقول: 
-لا تخف.. في قول كلمة الحق.. صحيح انني معتز بقوتي وشجاعتي،، الا انني اخضع لكلمة الحق مهما كانت قاسية.. لا تخف يا ولد.
واضاف يقول: انت في حماية الحوت.
تشجعت اكثر فقلت له اختصارا للحديث والوقت:
-هل انت على استعداد لمنازلة ترينا أيًا الاقوى بينكما؟
ضحك الحوت حتى استلقى على ظهره:
-معك حق. حدّد موعدًا للمنازلة..
عندما عدنا، ابن حارتي رفيق القرش وانا- رفيق الحوت، الى جلستنا المسائية في اليوم التالي، اخبرني رئيس فريق القرش، انه اتفق مع قرشه على منازلة بين الجدعين، تُقام مساء يوم الجمعة القريب.. في مركز البلد، قرب الدوار العمومي وعلى مشهد من الناس.
التقينا في الموعد المُحدّد من مساء الجمعة، كان الجو متوترا مشحونا، وكل منا يتمعن فيمن يؤيده. وقف الحوت منتصب القامة ووقف قبالته القرش مثلما وقف هو، واخذ كل منهما يدفع الآخر بصدره الى الوراء، سائلا اياه: انت متأكد انك اقوى مني؟، اما نحن الوقفين حولهما من ابناء الحرة الشرقية، فقد كانت قلوبنا تدق على ايقاع حركة كل من محبوبينا، هم كانوا يرسلون النظرات الموّلهة السكرى في قرشهم ونحن كنا نرسل نظراتنا المتأكدة من قوة حوتنا وقدرته على ان يدحر القرش الواقف قبالته.
دفعة بالصدر من هذا الطرف واخرى من ذاك، والنتيجة معركة شرسة بين عملاقين وليس بين رجلين. الطريف اننا كنا نرى كلما اشتبكا اكبر واضخم في الجثة والوزن، لقد كبرا حتى اننا لم نعد نراهما، لقد تركزت عيوننا المنبهرة المُتحسّبة لكل حركة ونأمة، في اليد التي توجّه اللكمة الاشد والاعنف، وكنا كلما وجّه الحوتُ لكمةً الى القرش، نحبس انفاسنا بانتظار اللكمة التالية وبعدها الضربة القاضية، وعندما ابتدأنا في وضع انتصار الحوت في جيوبنا، اخذنا نصفق له مهللين مكبرين، وهو ما استفز مؤيدي القرش، فراحوا يشجعونه ويصفقون له، الامر الذي فعل فعله في استنهاض جرأة القرش واستثارة حميته، فتوقف عن ترنحه، وشرع بتوجيه اللكمة تلو الأخرى الى الحوت قبالته. 
عندما شعرنا ان تشجيع فريق القرش، ادى دورا مُهمّا في توجيه دفة الفوز، اخذنا نهلل ونكبر داعين الحوت الى توجيه اللكمات الى خصمه القرش، الغريب انه استجاب لنا وراح ينفخ جسده انتفاخة مارد خرج للتو من الف ليلة وليلة، فاستعاد عافيته وراح يكيل الضربات لخصمه بمكيال من قوة وشجاعة. 
عندما رأينا ان التشجيع يؤدي دوره الكبير هذا في التحفيز.. والتسديد اللكماتي، ارسلنا مَن يستدعي المزيد من اولاد الحارة، ممن فضلوا الوقوف جانبًا وعدم الانضمام الى هذا الفريق او ذاك، وعندما فهمنا انهم غير معنيين، وعدناهم بان نتقاسم معهم طعامنا وشرابنا خلال ثلاثة الايام التالية. عندها اخذ هؤلاء، ومعظمهم - اذا لم يكن كلهم من ابناء المهجرين الجدد، ابتدأت الكفّة تميل الى من يزداد مؤيدوه، فهي حينا تميل نحو الحوت وآخر نحو القرش، وجاءت اخيرًا.. المفاجأة غير المتوقعة..
عندما تساوى عدد المؤيدين المشجعين لكل من طرفي الصراع القتّال، كان كل من المتنازلين قد اوشك على السقوط واعلان الهزيمة. 
توقف الاثنان، للمفاجأة الصاعقة، توقفا عن القتال. نظرا كل في اتجاه، وبصقا معا علينا، ولحق كل منهما بفريقه مسددا اليه الضربة تلو الاخرى.. كانت تلك علقة غير متوقعة من جدعي البلد، وكثيرا ما قضينا الليالي متضاحين.. ومتذاكرين تفاصيل تلك العلقة.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2- دون جوان النصراوي
قصة: ناجي ظاهر

نشا وليد الخازندار في بيت دافئ، لاب رؤوف وام حنون، وعندما مات ابوه شابا في السبعينيات، تأثر كثيرا وطالما لاحت في عينيه دمعة حارة، كادت تحرق قلب امه، فأغدقت عليه من محبتها اكثر.. فاكثر، مما اشعره بأن الحياة لا تتوقف بفراق الوالد الحادب وانما هي قد تبدا. المهم كيف ننظر الى الحياة. وتمضي الايام غير عابئة بأية عثرة او عقبة قد تعترض انطلاقتها، بما فيها من حلو قليل ومر كثير، ليجد الخازندار نفسه وقد كبر وشب عن الطوق. لقد اصبح في غفلة منه في التاسعة عشرة من عمره، وعليه ان يُقدّم انجاز عمره، وعندما قرأ في صحيفة قديمة، ان همنجواي كتب روايته الاولى "الشمس ستشرق ايضا"، وهو في الثانية والعشرين.. مدفوعا بان كل ابناء جيله قد انتجوا اعمالهم الاولى، انكب على القراءة والكتابة، الامر الذي لفت نظر امه فسألته عن سبب اهتمامه الشديد ذاك، فرد عليها قائلا بنوع من الزهو: بدي ارفع راسك وراس البلد، مضيفا بكبرياء لفتت نظر امه: بدي ارفع راس الوطن. افترشت وجه امه ابتسامة، حاولت ان تخفيها، الا انه تمكن بألمحيته وفطنته الشعرية من رؤيتها، فازداد زهوا وثقة بالنفس... وانكب اكثر واكثر على الكتابة.
في الواحدة والعشرين ابتدأ اسمه يلمع في سماء الادب العربي في بلادنا، فراح اسوة بسواه من شعراء تلك الفترة، في تسويق نفسه، وكان ان سعى لإقامة امسية شعرية يشارك فيها آخرون من ابناء جيله، مخططا لأن يكون الاظهر والابرز فيها. في مسائها المحدد عُقدت الامسية في دار الثقافة، بعد ان تم التحضير لها بكل قوة، وابتدأ الجمهور في التوافد على الدار، فيما ابتدأ الشعراء الشباب باعتلاء المنصة والاستعداد لإنشاد ما اعدوه من اشعار، ومثلما هو مُرتب.. شرع الشعراء في انشاد اشعارهم متمايلين مترنمين، وكان الخازندار قد خطط ان يكون آخر من ينشد ما اعده من شعر، فوقف متمعنا الوجوه، مترويا متأنيا، كما ارشدته امه، وابتدأ بقراءة قصيدة، تعمّد ايضًا، الا تكون طويلة ومملة، كونه رتّب لها في نفسه ان تكون مسك الختام، لأمسية شعرية من العمر. 
وقف الخازندار على منصة الشعراء، وقفة المحب المزهو بنفسه وبما سيقوله، عدّل وضع نظارته الطبية مثبتا اياها في موقعها الصحيح. تمعن الجمهور، وشرع بقراءة ما اعده استظهارا.. وعن ظهر قلب، الامر الذي لفت اليه انظار حسناوات الامسية. اندمج الشاعر في قصيدته كما يفترض وزاد في اندماجه هذا، ان قصيدته حملت عنوانا ذا معنى ومغزى هو" دون جوان- العاشق الولهان"، وكان الشاعر الشاب، كلما توغّل في قراءته قصيدته، شعر بالأنظار تتوجه اليه اكثر.. فاكثر، وكان اكثر ما لفته من بين الجمهور صبية شعر، ومن مثله يشعر.. هو الشاعر الفذ..، فنسي القاعة ومن فيها وركز انظاره في تلك الصبية، مسترقا اياها بين الحين والآخر نحوها، ونحوها فقط، وكان كلما تقدّم في نصه الشعري، قرأ في عينها ما قرأه دون جوان في عيون جميلات زمانه، فانتابته نشوة من نوع غريب، لينسى نفسه ويعود لإنشاد قصيدته مجددا، الامر الذي الهب عيني تلك الفتاة ودفعه للتحليق في مرتفعات طالما حلم بها خلال قراءته مسرحية موليير، وبعدها اثناء كتابته قصيدته الحافلة بمشاعر المحبة، لشخصية احبها وتمنى لو انه يكون مثلها ويناله مثل ما نال صاحبها الدون في حياته، وبعدها في مماته من ذيوع شهرة ونبوه صيت.. في عالم العشق والغرام.
انتهت الامسية وانفضّ الجمهور منطلقا كل منهم في طريقه، وعندما شعر الخازندار ان امه تنتظره عند بوابة دار الثقافة، توجّه اليها بمنتهى الادب، قائلا.. انه سيمكث قليلا مع زملائه الشعراء، وسوف يلحق بها بعد لقائه بهم.. وتقييمهم لأمسيتهم تلك. 
ما ان انصرفت امه حتى وجد نفسه وجها لوجه مع تلك الفاتنة المفتونة، تقدم كل منهما هما الاثنين من الآخر، وارسل هو نظرة حالمة نحو القمر المتألق في كبد الظلام، فيما تبعته هي ناظرة الى القمر ذاته. انفعل الخازندار بالفتاة الواقفة قريبا منه، وامسك بفرع شجرة قريبة منه معبرا عن رضاه من كل ما حصل ويحصل. تعمد الشاعر مواصلة الموقف المؤثر، تاركا لمشاعره ان تُعبّر عما احس به نحو فاتنته تلك، ومنتظرا ان تبدأ الكلام. لم يطل انتظاره فقد دنت منه اكثر واكثر ناسية نفسها، وهمست في اذنه تقريبا.. قائلة: كنت رائعًا. ما ان سمع الشاعر الشاب هذه الكلمات حتى كاد يطير منطلقا باتجاه القمر في سمائه. عندها التقت العينان بالعينين، وواصلت الكيمياء المتصاعدة بينهما في ارتفاع منسوبها، حتى فاض الكيل بالشاعر فنطق بما شعر به دون اي تردد او محذور، وهمس لها بصوت اراد الا يسمعه احد في العالم سواه: كم انت جميلة. واندفعت هي.. لتقول له ما شعرت به، غير حاسبة اي حساب، فهمست في اذنه: كنت رائعا.. انت دون جوان.
تبادل الاثنان بعد قليل، وفي الواقع بعد كثير من الوقت، كل ما يحتاج اليه عاشقان مبتدئان، من عناوين وارقام هواتف، وانصرف كل منهما في طريقه.. هي كما تأكد له هو الشاعر الحساس، كانت تفكر فيه، اما هو فقد كان يفكر في الخطوة التالية، ليقترب منها اكثر فاكثر.. مواصلة لأولى غزواته الغرامية. عندما وصل الى بيته ودخل الى غرفته، لحقت به امه الى هناك، غير انه طلب منها لأول مرة في حياته ان تتركه ليجلس وحيدا. احترمت الام ارادة ابنها الشاعر الشاب، بعد تألقه الشعري الاول، مفسحة له المجال للبدء في حياته الشعرية الجديدة. وتركته ينغمس فيها من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه. 
في الايام التالية، تعمّد الشاعر الا يتصل بفاتنته، تاركًا لها ان تؤمن له.. وان تثق به، بالضبط كما كان دون جوان يفعل مع عشيقاته المتسلسلات. بعد اقل من يومين اتته البشارة، فقد غمزت صنارته، لتستخرج سمكة فاتنة، قد تكون الاكثر فاتنة في الناصرة ومنطقتها، سيمرر يديه على طيفها بكل رقة وحنو، رقة تليق بشاعر عالمه عامر بالكلمات المسكرة المدوخة. مثلما هو متوقع تعمد الشاعر اللقاء بفاتنته، في مكان عام، ثقة منه انه لا يرتكب خطأ، وشرب الاثنان معا قهوتهما العصملية ذات النكهة المحببة. وأخذا في تبادل الكلمات الدون جوانية، وكان الشاعر قد كتب بخطه الانيق الجميل، في دفتر صغير وضعه في جيب معطفه، فوق قلبه بالضبط، كلمات وجملا اشتهر بها دون جوان الاصلي، لذا كان بإمكانه، كلما نسي ما يمكنه ان يقوله لفاتنته، يسترق نظرة عجلى الى دفتره ذاك، ويستل من احدى صفحاته كلمة او جملة تُسّير له الحديث المعبر الطلي، وتُسهّل عليه اللقاء بفاتنته، وغاب الاثنان عن الوجدان، منشغلين بما يرنوان اليه ويتوقعانه..، هو كان منشغلا بكيفية الوصول اليها اعمق فاعمق.. دون اي التزام، وهي كانت تُفكر بالوصول اليه والحصول على كل ضمان ممكن.. عندما تمعنت بشاعرها جيدا، ابتدأت بالتخطيط ولم تكتف به.. وانما تجاوزته الى التنفيذ. 
التقى الاثنان مرتين. لتخبره في الثالثة ان صديقة لها وشت بها وبلقاءاتها به لأهلها، فقامت قائمتهم، وقالت له وهي تنتحب: انهم شرعوا في التهديد والوعيد، وزادت في حُقنة التخويف طالبة منه ان يكون حذرا في تحركاته. مُلمّحة الى انها خائفة عليه، لأنه قد يتعرض في اية لحظة لاعتداء من احد ابناء عائلتها. انتابت دون جوان النصرواي حالة من الهلع، وقف في مركزه توقف مشروعه الشعري في حالة مقتله لا سمح الله. فانتفض واقفا مثلا ديك بلله القطر، واندفع الى بيته ليخبر امه المُحبة الحنون بما وقع فيه من ورطة.. وعندما سالته امه عن الحل، فقال لها دون اي اقتناع وبأسف دون جواني قاتل: الزواج.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

3- الزوجة العبرية
قصة: ناجي ظاهر
الاول من ايار 1976، بات منذ زمن بعيد تاريخا لا ينسى ولا يمكن نسيانه في التاريخ الشخصي للفنان التشكيلي، شايف العايف، ابن مدينة الناصرة. ففي هذا التاريخ ابتدأت مصيبة حياته التي ستقضي عليه وعلى حلمه رويدا رويدا، علما انه اعتقد في البداية انها انفراجه حياته الكبرى.. وبابها الاول المفضي الى جنة رضوان. 
الحركة تدب في شارع بولس بولس السادس الرئيسي، في المدينة، الاعلام الحمراء ترفرف على عصيها المستقرة على اكتاف الشباب والبنات. اليوم هو بوم العمال العالمي، والناس تتوافد الى الناصرة، عاصمة الجماهير العربية في البلاد، من بلداتها ومدنها المختلفة، من عرابة عكا وحيفا وغيرها، بعد قليل ستنطلق التظاهرة العمالية المظفرة.. الكل يتقد فكرا ويلتهب حماسا. 
تنطلق المسيرة، مخترقة الشارع الرئيسي، مسددة وجهتها نحو منصة الخطابة في بيت الصداقة القريب من عين العذراء، تلتقي عيناهما هو شايف العايف بعينيها، هي تلك الصبية الجميلة المليانة الملظلظة المربربة، لقاء العينين يتحول من الصدفة الى القصد، كل منهما، هما الاثنين، يفاجئ الآخر بنظرة حافلة بالرغبة، لتلتقي بنفسي العينين. لقاء العيون يتكرر وتبدا الاحلام بالانطلاق الى اماكن مختلفة، اماكن من عوالم اخرى، مبهرة وساحرة، العايف يشعر انه عثر على بغيته، عروس المتقبل، دون ان يدور لسانه مع لسانها، يتصورها جسدا رائعا، حتى "روبنز" عجز عن رسم مثله، من المؤكد ان هذه الصبية ستكون ذات تأثير في حياته فإما تكون "موديله"، الذي حلم برسمه، واما تكون زوجته وام اولاده. وخطرت له فكرة تتوسط هاتين الامرين، " اما ان تكون الاثنين... الموديل والزوجة"، قال العايف لنفسه وهو يرسل ابتسامة ذات الف معنى ومعنى نحو فاتنته المنطلقة في المسيرة.
تنتهي المسيرة في بيت الصداقة، تتوقف هناك، يهرع الاثنان.. كل نحو الاخر، تتواصل النظرات، الا انها تتقدم نحوه، حد الالتصاق به غير عابئة بأحد:
-الست الفنان شايف العايف؟ تساله.
-بلى.. انا هو.. يرد عليها مرفقا رده بابتسامة ومضيفا: 
-لكن من اين تعرفينني؟ 
تبتعد عنه قليلا:
-ولو؟ وهل يخفى القمر.. اته نمتسى بدميون شيلي( انت موجود في خيالي).. كل الوقت رسوماتك امامي. اته متسوي (انت موجود) في وسائل الاعلام بشكل كبير. 
يجتاح الفرح الغامر الاثنين، يدور بينهما حديث من وجد ضالته بعد سنوات من البحث، يبدا حديث بينهما.. لا ينتهي ولا يريد. احدهما لا يحقق مع الاخر، وانما هو يتركه يتدفق شوقا وكلاما. هما لا يفترقان الا بعد ان يتعرف احدهما على الاخر جيدا، يتبادلان العناوين وارقام التلفونات. اهم ما عرفه كل منهما هو انهما متقاربان في العمر، في اواسط العشرينيات من عمريهما، وانها هي من سكان عكا وتقيم مع اهلها في بيت هادئ على شاطئ البحر. 
في كانون الثاني من العام التالي 1977، تكون طبخة ارتباط كل منهما بالآخر قد نضجت على نار هادئة، ويختاران كانون الاول شهر البرد الصارم القاصم، موعدا لارتباطهما بالرباط المقدس، اختيارهما هذا الشهر، لم يكن مصادفة وانما تعمّدا، فقد عافا برد الشتاءات الماضية من حياتيهما، وآن لهما ان يرتاحا.
الامور تمضي كما كان مخططا لها بين الاثنين، بالضبط ودون اي عائق، وتنتقل هي الى بيته القائم في اعماق البلدة القديمة، ليعيشا معا، وليكتشف ان ما بدا مزحة في هذا اللقاء او ذاك انما هو طبيعة لا يمكن تغييرها كما اعتقد الشايف، فهي تنطق خلال حديثها، كما تأكد مائة في المائة، بعد زواجه منها، انها تكرس الكلمة الثالثة لكل جملة تفوه بها تقريبا لكلمة عبرية، في فترة الخطوبة لم يكن يفكر في هذا، كما انه حاول ان يتجاهله بعد زواجه منها، الا ان البعض من اهله واصدقائه لفتوا نظره، الى كثرة الكلمات العبرية في احاديث زوجته العربية، في البداية لم يهتم لهذا الا انه ما لبث وان اعلن لها بصوت منخفض، اليه، فما كان منها الا ان اخبرته ان هذه عادة اكتسبتها من كونها عربية تعيش في مجتمع.. وحي يهودي. تقبل كلماتها بهدوء، متجاوزا عن ملاحظات اخرين. ومتقافزا حولها مقترحا عليها ان يقوم برسمها. 
جلست قبالته وشرع في رسمها مدة يوم كامل، تلاه يوم وآخر، فعافت جلستها تلك، وتوجهت اليه نافرة فيه:
-عد متاي اني تسريخة لسبول كول زه؟(حتى متى علي ان اصبر على هذا؟)
فربت على كتفها راجيا اياها:
-ترجعي اهوفتي.. اني كمعاط جمرتي.(اهدئي حبيبتي.. انهيت تقريبا).
عندها دنت من اللوحة امامه، وتمعنت فيها كانت المرأة في اللوحة جميلة جدا، الا انها لم تكن هي، فانتهرته قائلة:
-مبين انت براسك ايشه اخرت.(امراة اخرى).
وقبل ان يرد عليها قالت له بتدلل:
-انت لا تحبني.. شكران.(كذاب).
انتهت تلك اللحظة الا ان هواجسه الغنية الفوارة، اخذته بعيدا مُشرّقة مغربة، متنقلة بين عكاها وناصرته، وفكر طوال الليل فيما قالته له، متهمة اياه بانه لا يحبها وكذاب ايضا، فخطر في باله انها قد تخونه باحثة عمن يحبها، فجن جنونه، ولم ينم في تلك الليلة الا بعد ان اتخذ قرارا لا رجعة فيه.. مهما كلفه الامر. 
في السنوات العشر التالية كان قد نفذ كل ما فكر فيه، تنازل عن حلمه في الرسم، وفي رسمها تحديدا، واكتفى برسومات عادية تثبت وجوده في عالم الفن، وهو يعرف اكثر من غيره انها لا يمكن ان تحقق له حلما في الدخول الى سجلات الخالدين، لقد اكتفى بصفة فنان.. مقنعا نفسه بان هذه البلاد عقيمة ولا تنجب فنانا حقيقيا، وقائلا لها انه اذا كان سيبدع شيئا حقيقيا فانه لا بد له ان يقوم به ويقدمه الى العالم ان عاجلا وان اجلا. اما فيما يتعلق بزوجته الفاتنة المليانة المظلظة المربربة، فقد نفذ ما قرره ايضا، فقد ولدت له كل سنة ابنة، وقد عزز اصراره على تنفيذ إشغال زوجته بالإنجاب انها لم تنجب ولدا.. يواصل حلمه الفني. 
بعد انجاب زوجته ابنتهما العاشرة، بقليل، توقفت واضعة يديها على خصرها ومنتهرة اياه:
- داي(كفى) شايف العايف.. اني لو يخولة لسفول يوتر. ( لا يمكنني الصبر اكثر).
عام 2006 تزوجت ابنته الاخيرة، الصغيرة، وكان ان وجدت بناته سوقا قويا لدى شبان الناصرة، فقد كن فاتنات يشبهن امهن، بل انهن ورثن عنها كل شيء، حتى خلط العربية بالعبرية، وقد ادخل هذا الخلط ازواجهن بنوع من البلبلة، جراء ملاحظات الاهل والاصدقاء، لتبتدئ المعارك فيما بينهم، وبما ان بنات شايف العايف، لم يكن وحيدات في مواجهتهن لأزواجهن من رافضي ادخال الكلمات العبرية بكثرة الى عربيتهن، فقد انتهى كل من خلافاتهن الزوجية.. واحدا يتبع الاخر، حتى طلقن كلهن، وعدن واحدة وراء الاخرى الى بيت والديها في اعماق البلدة القديمة.
البقية باتت واضحة فقد تحمل الفنان شايف العايف زوجته العبرية العكية.. اما ان يتحمل الى جانبها عشر مطلقات يملان فضاءه بالكلمات العبرية، فان هذا كثير.. ومن الصعب تحمله.. بل ربما من المستحيل.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

4- المتغرب الايرلندي
قصة: ناجي ظاهر
عاش خياّم اللهواني ردحا مديدا من حياته، واكاد اقول حتى.. مماته، مع انه حي يرزق، عاش حياته معزولا وحيدا، وكان ما ان يخرج من وحدته حتى يعود اليها مضطرا مُكرها، وقد قضى جُلّ حياته بعيدا عن الناس وقريبا منهم في الان، فهو ما ان يقترب منهم حتى يأتي مُنغّص، لا يدري من اين، ليعكر عليه اجواء خروجه من امواه وحدته الفاتكة القاتلة، وقد علّمت التجارب اللهواني على العديد من الطرائق للخروج من وحدته، منها.. ما ان كان يُعرّفه احدُهم على صديق له، حتى يأخذ في التقرب اليه، متجاوزا من عرّفه عليه، ومحاولا بناء علاقة خاصة به، الامر الذي كان يُغضب الطرفين، صديقه وصديق صديقه.. فينفضان عنه، بل انه بالغ ذات يوم في غيه، فما ان عرّفه صديق صحفي على زميل.. عامل له في الصحيفة، حتى نزل عليه بأشواك كلامه الحادة.. اعتقادا منه ان ما يقوم به انما يُقرّبه منه!! وكان ان رد عليه هذا الصديق بعنف وطرده من مكتبه شر طردة.. واصفا اياه بالأفعى الناكرة للجميل، وقائلا له: انك لم تحفظ الود لمن عرّفك عليّ.. فكيف تطلب مني ان اتصادق معك.. واضعك في عبي. 
بقي اللهواني يتعرف على آخرين من خلال اناس اخرين، بينهم اقارب له، حتى بلغ الثلاثين من عمره، فعاف حياته ليغادرها الى الغرب، وليستقر به المقام في مدينة دبلن الايرلندية، منضما ولاحقا باخ له، استقر به المقام فيها، وارتبط بامرأة ايرلندي. اصطحبه اخوه فور نزوله من الطائرة الى بيته ليعرف زوجته به، وما ان انقضى يومان حتى سألت صاحبة البيت زوجها الى متى سيبقى اخوك عندنا؟، فهم اخوه.. ان زوجته ضاقت ذرعا بأخيه، فاقترح عليه ان ينزل عند صديق له يعيش وحيدا في شقة بعيدة عن مركز المدينة، ريثما يعثر على فرصة متاحة للبقاء في تلك البلاد. 
تقبل خيام الاقتراح، وانتقل للإقامة مع صديق اخيه، ولم يمض اكثر من يوم ونصف اليوم حتى جاءت النتيجة القاسية، قال له صاحب الشقة بصريح العبارة انه لا يمكنه استضافته للابد، عندها خرج اللهواني، كما خرج في اكثر من لحظة من لحظات حياته، هائمًا على وجهه، وجلس في محطة القطار عاضًا على شفاف الندم، لكن كما ارسل له الله من يُخلّصه في اللحظة الاخيرة من كل وقعة جديدة، لم يخذله هذه المرة، فقد عَلِمَ اخوه بما صارت اليه اموره، فبحث عنه طوال ساعات، حتى عثر عليه منكمشا في محطة القطار، وفي عينه دمعة. 
تقدم منه اخوه وفي عينيه رأفه واعتذار وربت على كتفه قائلا له، انه عثر اخيرًا على الحل الملائم لإقامته الدائمة في دبلن، وامسكه من يده جارا اياه، الى مقهى يقوم في اعماق المدينة، وهناك قدمه الى فاتنة ايرلندية، قائلا لها: اعرّفك على اخي. ارسلت الايرلندية نظرة الى اللهواني، وهزّت رأسها علامة الموافقة، ما رسم ابتسامة على جبين اللهوني، فقد فهم بحاسته المُدرّبة على الوحدة، المتحسبة لها دائما وابدا، انه عثر على المرأة التي تُمكّنه من الحصول على تصريح اقامة دائم في تلك البلاد، وعلى بيت دافئ يشرب فيه الكباتشينو ويُمدّد رجليه فيه وعلى كنباته باسترخاء، وبينما هو يتخيل نفسه وقد عثر على رفيقة، زوجة وبيت دافئ، كانت تلك الايرلندية، ترسل نحوه نظرة مُعجبة بملامحه الشرقية وشعره الليلي الاسود، وتأكدت من جسمه الممتلئ، انه سيخفف عنها متاعب الحياة، وسوف يكون معينا لها على مصاعبها ومشاقها.
في مساء ذلك اليوم، دخل اللهواني واخوه وزوجته الجديدة الى شقتها، وبعد نحو نصف الساعة، استأذن الاخ في المغادرة الى بيته، مُخليًا الفرصة لأخيه ان يعب من المياه الايرلندية ما شاء وما رغب، وهكذا كان، فما ان اغلق الاخ باب الشقة مُوليًا ومختفيًا في فضاء الشارع المحاذي، كما ظهر للزوجين المتعانقين من نافذة شقتهما، حتى التصق الزوجان التصاقة غريق عثر بعد عناء وشقاء، على خشبة الخلاص المنشودة.
شهدت الايام التالية ازدهارا لم تشهد مثله حياة اللهواني خلال سنوات عمره الثلاثين الماضية، وربما حياة زوجته الايرلندية ايضا، فقد كان كل منهما يحلم بالسكينة والاستقرار، وها هو الله قد يسرهما لهما، بأيسر السبل، الزوجة فرحت بزوجها المشتاق لجسد امرأة، والزوج فرح لأنه استقر هناك في دبلن، بعيدا عن الشرق ووحدته.. بل وقرفه فيه.. ما عدا هذا، تبين للزوجة انها اخطأت نوعا ما في حساباتها، فقد اكتشفت خلال الايام التالية ان زوجها اللهواني انما سيعيش على حسابها، فتوجهت اليه طالبة منه بكل ادب، ان يخرج للبحث عن عمل، فالمصروفات كثيرة.. ويد واحدة لا يمكنها تعيل اثنتين. 
خرج اللهواني من شقة زوجته حائرًا في ماذا يمكنه ان يفعل في تلك البلاد الغريبة عنه، وللحق نقول انه حاول ان يدخل الى مطعم وبعده فندق ليسأل عن عمل، إلا انه تهيّب ولم يفعل، الامر الذي دفعه للاتصال بأخيه طالبًا منه المساعدة، غير ان اخاه كان قد اغلق تلفونه، فعاد الى زوجته وعلى وجهه اكثر من علامة ضيق. سألته زوجتُه عن سبب ضيقه ذاك، لتواجه بصمت شرقي لا تعرفه، الامر الذي دفعها لإعادة السؤال. حين شعر اللهوني بنبرتها الغاضبة قليلا، خشي ان يصيبه ما اصابه في كل مكان وزمان حلّ فيهما، فأخبرها انه لا يعرف كيف يمكنه العثور على عمل، في مدينة كبيرة مثل دبلن، ما ان سمعت الزوجة المستريبة كلمات زوجها هذه، حتى افترشت وجهها ابتسامة واسعة، وهمست في اذنه الحبيبة قائلة له: ولا يهمك. 
في اليوم التالي كان اللهواني يعمل نادلا في مطعم ضخم فاره، ويشعر بثقة لم يشعر بمثلها طوال ثلاثين عاما الماضية، فقد بعث له الله بعد صبر جميل زوجة جميلا وعملا يقيه شر الوحدة والسؤال. 
انغمس اللهواني في عمله ناسيا ذاته القديمة، لكنه عندما تذكرها وعادت اليه اطيافها العتيقة، حتى افتعل خلافا كما فعل في حالات اخرى مشابهة مع صاحب المطعم، ليجد نفسه بعدها ينطلق باتجاه شقته وزوجته، اما شقته فقد فتح بابها بالمفتاح الخاص به، واما زوجته فقد اضطر حتى عودتها من عملها في المساء. بعد دخول الزوجة الى شقتها بوقت قصير لاحظت ان زوجها يعيش حالة من الحيرة والارتباك، ولم يمض وقت طويل على حديث الزوجين، حتى اقبلت الزوجة على لهوانيها ضامة اياه الى صدرها الطري، ومربتة على ظهره وهي تقول له: ولا يهمك.
بعد يومين، وجّهت الزوجةُ رجلَها الى عمله الجديد نادلا في قاعة للأفراح، فطار اليها مندفعا باحتضان زوجته الليلي له، واندمج بسرعة كسول مُحبٍ في عمله، ليعافه بعد فترة قصيرة وليتكرر شجاره مع مدير القاعة، ولتأتي النتيجة المحتّمة مغادرة القاعة بأسف.
قضى اللهواني على هذه الحالة مُدة سنوات، انجبت فيها زوجته الايرلندية ابنة مثل القمر، ففرح بها الزوجان، ونسيا مشاكلهما الصغيرة مع وحدة اللهواني وبطالته المزمنة، وعجزه عن التأقلم مع آخرين ممن يتعرف عليهم بهذه الطريقة او تلك، غير ان ما بدا في تلك الاثناء ان فرحة الزوجين لم تدم طويلا، فقد نفرت به زوجته عندما لاحظت ان دمه لا يتحرك، وانه عثر على طريقة مستحدثة، لكن ليست حديثة لمشكلته مع التأقلم والعمل. كان لا بد لها من وضع حد لما عانت منه طوال سنوات زوجها، فقامت بطرده من بيتها شرّ طردة، وهي تصرخ به انها اعطته كل ما بإمكانها اعطاؤها اياه من فرص، وان قدرتها الايرلندية الجبارة.. قد نفذت.
عندها تأكد خيام اللهواني، من ان عقد زواجه قد نفذت مفعوليته، وانه لا بد لها من العودة الى بلاده، شجّعه على هذا ان عددا من اهله ومعارفه، اخبروه انهم اشتاقوا إليه. هكذا عاد اللهواني الى البلاد، وكان ان دعاه معرفةٌ له الى شرب فنجان قهوة في " اروما"، وما ان تناول كلٌ منهما، هما الداعي وضيفه فنجان قهوته، حتى شرع اللهواني بالتحدث عن مكوثه مدة سنوات في ايرلندا، وهو ما شجّع داعيه على الاهتمام به وبما حدثه عنه، فدعاه مرة واخرى... الامر الذي مكن اللهواني من العثور على كلمة السر التي بحث عنها طوال سنوات عمره لعبور ابواب قلوب الآخرين وهي: كنت في اوروبا، غير ان فرح اللهواني لم يدم طويلا.. فعادت حليمة الى عادتها القديمة.. مثقلة هذه المرة بحمل رزين.. من الذكريات.

ראש הטופס


5- جبل الاسف

قصة: ناجي ظاهر
جرى لقائي الاول به في بيته القائم فوق الجبل تحت الاشجار، كنت يومها في زيارة لصديقي، اخيه الاصغر، وبما ان اخاه كان مسافرا، كان لا بد لي من الجلوس اليه ومشاركته شرب فنجان قهوة العربية الاصيلة، كما تقتتقاليد. بسرعة كبيرة تم التعارف بيننا، في البداية جرى الحديث عن الربيع الاخضر، بعده انتقل بمبادرة منه، لا اعرف كيف للحديث عن الخريف، وعبثا حاولت ان احدثه عن الربيع، فقد كان يمتلك قدرة هائلة على جرّي الى ما يحب من حديث خريفي اصفر، واعترف انه جرّني الى خريفه، فاقمت معه والى جانبه فيه طوال تلك القعدة، وقد كان بإمكاني ان انصرف عنه بسهولة.. لما فاض به من افكار سلبية من شانها ان تدمر جبلا راسيا.. وليس كاتبا مبتدئا مثلي فقط، غير ان حبي لارتياد مجاهل النفس الانسانية دائمة الغموض شدني اليه، وجذبني الى اقراص ابتسامته الدافئة الحنونة. هكذا بإمكاني القول ان لقائي الاول به كان مصادفة، امكنني الانصراف عنها ومغادرتها الى لا رجعة، الا ان لقائي الثاني به كان عمدا وقصدا وحبا في المغامرة، التي يحتاج اليها كل انسان مبدع وعاقل، فكيف اذا كان هذا الانسان كاتبا مبتدئا.. من قرية مهجرة وتضيق باحلامه ربوع بلاده؟ 
في الفترة التالية لعلاقتي به، لاحظت انه مجبول من طينة غريبة، فيها كل ما تريده وترغب فيه النفس وعكسه، فهو طيب وشرير في الآن وهو عازف عن النساء زاهد فيهن وفي الان ذاته مقبل مجنون بهن!! اما بالنسبة لي فقد اكتشفت انه عاشق متيم بي وكاره رهيب لي في الان ذاته، بل انني كثيرا ما القيت القبض عليه خلال محاولته سرقة بعض من احلامي.. واصدقائي المقربين، الا انني سامحته لإيقاني انه انسان غير مُضرّ، وان كل ما يفعله ويقوم به انما يدخل نفسه فيه دون ارادة منه، ورغبة في اثبات الذات في عالم.. اعرف اكثر من سواي انه يسحق اكبر ذات اذا امكنه، كما سحق العملاق جولييت الجبار نملة.. تائهة عاشت في جواره. 
لم يكن صديقي هذا يحب العمل، وكان من الصعب واكاد ان اقول من المستحيل عليه، ان يتواجد في مكان واحد اكثر من ساعتين، بعدهما كان يبدأ في الغليان، الى ان يخرج منه- من المكان- كما يخرج العريس من بيته، وقد وجد بما اتصف به من حيلة مُضمرة وخبث موارى، ان يعثر طوال الوقت على من يعيله ويقدم اليه كل ما نشده وطلبه على طبق من صبر وتضحية. وحدث بعد معرفتي به ان قمت بنشر عدد من القصص، فاتصلت بي احدى القارئات واقترحت علي ان ازورها في قصرها الفاره، القائم في اعماق البلدة القديمة من مدينتي الاثرية التاريخية الحضارية الناصرة. خلال زيارتي لها، فهمت انني مهجر ومعتر في الآن ذاته، ولا اجد المكان الملائم لمواصلة كتابة القصص الحبيبة.. العزيزة على قلبي وحياتي. عندها ارسلت نظرة واسعة نحوي، وارفقتها باقتراح نادر، اعتقد ان جبران خليل جبران هو الوحيد الذي حظي بمثله في ادبنا العربي من بطلته الاجنبية ماري هاسكل. اقترحت عليّ تلك الفاضلة ان اقيم في احدى غرف قصرها وان اتفرغ لكتابة القصص، وهي ستتكفل بمقامي ومعاشي.. فرحت بالاقتراح، وشرعت في الكتابة مثل مجنون عثر على عقله فجأة.. وعلى غير توقع. اعترف هنا ان ما حظينا به، انا وقصصي، من اهتمام لفت انظار القراء في بلادي وفي عالمي العربي ايضا، انما كان بفضل تلك الفاضلة اطال الله في عمرها وكثّر من امثالها. 
مثلما يحدث عادة في الحياة.. والقصص ايضا، ما ان نبه اسمي حتى اتصل بي صديقي اياه، وتحدث عما قمت بنشره من قصص في الفترة الاخيرة، والجِمال تشيل، وكان من الطبيعي والذوق السليم، ان ادعوه لزيارتي حيث اقضي جل وقتي. لم تمض سوى دقائق حتى شعرت بطرقة قوية على باب غرفتي، هرعت الى الباب وفتحته برقة كاتب قصص.. كان هو يرسل ابتسامة نحوي، والى جانبه السيدة صاحبة القصر.. أما هو فقد دخل غرفة الكتابة وأما هي فقد استأذنت لإعداد القهوة العربية الاصيلة.. احتراما وتقديرا لضيفنا العزيز. 
بسرعة متوقعة اتخذ مجلسه قبالتي، وراح يرسل إليّ نظرات غامضة فسرت نفسها بنفسها بعد وقت قصير من دخوله الغرفة. في البداية اجرى تحقيقا موسعا معي عن العز الغامر المحيط بي، فأجبته بمحبة صديق، بعدها تحول الى الحديث عما نشرته من قصص منذ اتيت الى تلك الغرفة في ذلك القصر، ولا اعرف كيف زحف كعادته قالبا لي ظهر المجن، وبدلا ان يواصل مديحه لما كتبته وانتجه في اعماق القصر، راح يكيل لي النقد ويصف كتاباتي بانها نمطية، وبانني يجب ان اخرج الى افاق ارحب من العالم، لأكتب عن تجارب اوسع وارحب. اعترف ان انتقاداته هذه لم تكن الاولى، فقد سبق وطرحها في لقاءات اخرى ماضية وسبق لي واجبت عنها بان الانسان الكاتب المبدع قد يرى الله في اصغر الامكنة واضيقها!! 
دخلت علينا، في تلك الاثناء، صاحبة القصر، وبيدها صينية وعليها غلاية قهوة والى جانبها ثلاثة كؤوس، وضعت الصينية على الطاولة امامنا، ولا اعرف ما الذي دفعني لان اطلعها على انتقادات صديقي لي..، ما ان سمعت صديقتي ما قلته لها، حتى اشرأبت برأسها، وتوجهت الى صديقي ذاك مثل لبؤة تعرض شبلها لخطر مُحدق، ونفرت به قائلة ما مفاده ان هذا الرجل، واشارت الى، يخصني، ومضيفة انني سأقوم بسحق كل من يتعرض له او يُعرّض بكتابته، وانهت قولها الغاضب بقولها: يكفي انني انا اعرف قيمة ما يكتبه كاتبنا النصراوي المبدع.
ما ان نطقت بقولها الاخير هذا، حتى رأيت صديقي يستأذن في الخروج، ويولي مثل طائر رُخٍ اتعبه السفر من الفا ليلة وليلة الى اعماق الناصرة، كان يبدو حزينا.. في ذروة الحزن، وعبثا حاولت ان افسر حزنه، هل دفعه اليه مقارنته بين وضعه، وبين ما صارت اليه اموري من انتعاش، هل شعر انه اهين امامي، وانني لم ادافع عنه كعادتي، هل وضعته تلك المرأة صاحبة القصر، امام فشله المزمن وجها لوجه، فلم يطق نفسه وهرب منها ومني.. من القصر.. ومن.. وقبل ان انطق كلمة: الناصرة، انتابني شعور انه قد يخرج فعلا من الناصرة وان تلك ستكون المرة الاخيرة لرؤيتي اياه، عندها جن جنوني وطرت وراءه مثل طائر رخ آخر، ارسلت نظرة متفحصة متمنية ان تجري اموره بسلام، وبعيدا عن كل توقع قريبا منه، رايته هناك يجلس تحت احدى الاشجار العارية، ويضع راسه بين يديه. كان اشبه ما يكون بكومة من الحزن طلعت من اعماق الارض لتتخذ مكانها تحت تلك الشجرة. تقدمت منه بخطى حافلة بالمحبة والتسامح، وضعت يدي على كتفه بشعور مبلل بأحاسيس الفقد والخسارة المتوقعة، وقلت له انني لا اريد شيئا منه وانه اذا كان يسره ان اترك غرفتي في ذلك القصر وانطلق معه في طريق العودة الى الشارع فإنني سأفعل. عندها رفع راسه وارسل نظرة مرفقة بدمعة من فشل في كل شيء، وربت على كتفي قائلا عد الى غرفتك.. عد الى هناك.. فهناك مكانك الصحيح. في تلك الغرفة وبين جدران قصصها.. ومضى في طريقه محني الظهر.. وكأنما هو يحمل جبالا من الاسف.

 

ראש הטופס


 

 

 

6- اعماق نصراوية
قصة: ناجي ظاهر
الدكتور المحترم
ابتدأت قصتي عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري، في الصف الثاني عشر الثانوي. كان ذلك عندما شاركت ابناء صفي في رحلة مدرسية طويلة نسبيا، يومين الى مدينة البشارة.. الناصرة. قمنا في اليوم الاول بالتجوال في المدينة وكان من المفترض ان تنتهي زيارتنا هذه مثلما تنتهي مثيلاتها من الرحلات، يمضي يوماها، ونعود الى بلدتنا سالمين غانمين، لولا تلك الحادثة التي قلبت حياتي راسا على عقب، وادخلت اليها تشويشا كثيرا.. اعتقد انه استوجب منذ سنوات طلب المساعدة النفسية.. هذا التشويش تواصل خلال اكثر من عشرين عاما. كما هو واضح.. انا اليوم في الثامنة والثلاثين.
كنا لحظة وقوع الحادثة، نشارف على انهاء رحلتنا، فراح كل منا نحن الطلاب المشاركين في الرحلة يشتري الهدايا لأهله ومحبيه، وكان ان سألنا خلال انطلاقنا العفوي في احد الشوارع، شابًا عابرَ طريق عن محل يبيع الاثريات، فارشدنا قائلا انه بإمكاننا ان نصل اليه خلال سيرنا في الشارع ذاته مباشرة، الا انه يوجد هناك شارع اخر اقرب اليه، لكنه عادة ما يكون خاليا من المارة، تشاورت مع مرافقتي عما اذا كانت تود ان نمضي في الشارع ذاته، وتوصلنا بعد نقاش قصير، الى انها تفضل المضي في الشارع الاقرب، على اعتبار انه شارع خلفي، واننا قد نرى فيه الناصرة القديمة.. بتاريخها الحضاري العريق، وزواياها غير المرئية، سرنا في الشارع الاقرب، وراحت كل منا، نحن الصديقتين، تحاول ان ترى الاعماق النصراوية عبر الحجارة والاسوار والورود المسترخية عليها بمحبة وحنو، الامر الذي فصل بيننا، وجعل كلا منا تنطلق في زقاق ضيق. بحثت عن صديقتي عبر ارسالي النظر في اتجاه آخر اعتقدت انها سارت فيه الا انني لم ارها، انتابتني حالة من القلق، فرفعت صوتي اناديها، وما ان عاد الصمت الهيب يهيمن على المكان، حتى شعرت بنفسي بين احضان شاب، يحاول النيل مني، عندما تبين لي ما انا فيه من خطر، قاومت بكل ما لدي من قوة، الا انه تمكن مني، وقبل ان ينال مأربه مني، شعرت بوقع اقدام تندفع من اول الشارع، وبيد من شفاعة وخلاص تمتد اليه وترفعه عني، لتقذف به بعيدا.. بعيدا.. في فضاء الزقاق وضبابه. خلال ثانية او اكثر رأيتني اقف وجها لوجه امام ذلك الشاب الذي ارشدنا، صديقتي وانا، الى حانوت الاثريات، وقبل ان اشكره توجه الى زقاق جانبي آخر، وعاد بسرعة وبرفقته صديقتي الضائعة، ارسل نظرة حافلة بالحنان نحونا، واشار لنا بيده ان نغذ السير، وهو ما قال لنا انه لم يتبق لنا حتى نصل الى حانوت الاثريات.. الا مسافة قصيرة، وما زلت اتذكر انه رافقنا بنظراته الحادبة الراعية حتى وصلنا الى الحانوت المقصود. بعدها اختفى اختفاء تاما، كأنما هو تداخل في احجار الاسوار او ورودها المتدلية عليها بحنو.
حاولت ان اعود الى الوراء، ان ابحث عنه لأشكره على شهامته تلك، الا انني لم اتمكن، وقد ندمت كل الندم لأنني لم اساله عن اسمه او عنوانه لأرسل اليه اشكره، او لأرد له بعضا من جميله علي وعلى صديقتي. كان ذلك الشاب وديع المحيا.. اكثر ما يلفت النظر فيه عيناه عميقتا الغور، وشعره المسترسل على كتفيه، كما كان ذا قوام متوسط، لا هو بالطويل ولا هو بالقصير، واعتقد انه كان يومها في مثل عمري اصغر مني بسنة او اكبر بسنة.
عندما روينا لمعلمنا المرافق، صديقتي وانا، ما حصل لنا وكيف ان ذلك الشاب خلصنا ، انا خاصة، من خطر محتم، عاد معلمنا معنا.. رغم ضيق الوقت المتبقي للرحلة، الى الشارع ذاته، وعبثا بحث عن ذلك الناصري الشهم.. فقد اختفى.. كما تختفي النسمة في عبق التاريخ. 
انتهت رحلتنا تلك، وعدنا الى بلدتنا، لتلح علي صورة ذلك الشاب، فما ان انسى صورته او احاول ان اتناساها، حتى تعود لتلح علي مجددا، إما بعد ان ارى شابا يشبهه، او عندما يظهر لي طيف يشبهه في هذه السماء او ذلك المكان التاريخي العريق، ولا اعرف لماذا شعرت انني قد ارتبطت روحيا بذلك الشاب، علما انه لم يفه بأية كلمة ولم يدل بأية معلومة تقود اليه، وتعرف به، وقد بقيت صورته تلح علي مُدّة قاربت العشرة اعوام، واذكر انه كلما كان شاب يتقدم لطلب يدي وخطبتي، كنت اقارنه به، عبر اختبارات خاصة برعت في حبكها، فأجد الفارق الكبير بين الاثنين، لتأتي النتيجة في مصلحة ذاك الغائب في اعماق الناصرة.. ازقتها وضبابها المقدس، وهو ما يعني انني كنت ارفض الارتباط بمن تقدم الي من الشباب. خلال هذه الاعوام المقاربة للعشرة، جرت مياه كثيرة في نهر حياة بلدتنا وتزوجت معظم صديقاتي، بنين بيوتا وملأنها بالأبناء. وكان لا بد ان اجد حلًا لوضعي مع ذلك الشاب المقيم الساكن في اعماق اعماقي.
ذات يوم من ذات عام، حملت نفسي واستقللت الباص المنطلق من بلدتي الى الناصرة، وصلت في ساعات الضحى، وحرصت اول ما حرصت على ان ازور ذلك الشارع الخلفي، لعلي التقي بذلك الشاب، غير انني لم اعثر له على اثر، قضيت يوما كاملا هناك ابحث عنه وانقب.. غير انني لم افز بالعثور على بغيتي. اصابتني حالة من الهوس، عدت الى بلدتي توجهت الى بيت زميلتي، يوم الرحلة الى الناصرة، ومتاهتنا فيها، وطلبت منه ان تحضّر نفسها لنزور مدينة البشارة. في اليوم التالي استقللنا الباص.. وصلنا الى الناصرة وشرعنا بالتجوال في شوارعها، وكنت طوال الوقت انقب بعيني قلبي عن ذلك الشاب، حتى وقع نظري عليه في احدى الزوايا المعتمة من منطقة السوق- البلدة القديمة. اقتربت من صديقتي وهمست في اذنها عما اذا كانت ترى ما ارى؟ وعندما ارسلت نظرها الى حيث اسدد نظري، قالت لي من فورها.. انه هو. الا انها ما ان رأتني اتوجه نحوه حتى عادت تشدني الى الوراء.. لا اعتقد انه هو. بين هو وليس هو قضينا لحظات لفتت نظر الشاب الواقف في تلك الزاوية المعتمة، الامر الذي دفعه لأرسال ابتسامة شبيهة بابتسامة ذلك الناصري المخلّص. اقترب الشاب منا. وحصل التعارف. وبدون كثير شرح، تقاربت العيون وبعدها القلوب، وارتبط كل منا بالآخر. للحقيقة اقول انني اكتشفت في ليلة الدخلة ذاتها، انه ليس هو، لذا رفضت ان امكنه مني وحافظت على عذريتي لا اسلمه اياها. ومضى على هذا النحو عام، ولم يكن امامي من مفر سوى ان اطلب الطلاق، فكان لي ما اردت، رغم ان "زوجي" رفض في البداية، كونه كان متعلقا بي تعلقا شديدا، وانا لا اخفي عليك ان وجهى الاسمر البسام وجمالي في الشكل والقوام، قد اثرا عليه في الاصرار على البقاء معي تحت سقف واحد. رفض زوجي هذا انتهى بقبوله طلبي الطلاق منه، وكان ان دفعت الثمن مقابل مواصلتي حلمي في العثور على فتى الاحلام الغائب الحاضر، وهو التنازل عن كل حق لي عنده.
ومضت سنوات وسنوات، وانا اتردد على الناصرة، لعلي احقق حلمي في العثور على ذلك الشاب الشهم الاصيل، الا انني ما زلت ابحث، واعتقد انني الآن.. وانا اقارب الثامنة والثلاثين من عمري.. قد التقي به.. فقد رأيت امس، خلال زيارتي الدورية للناصرة، ظله يمر من نفس الشارع و.. يمضي في نفس الزقاق.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

7- معاقطة حمارية
قصة: ناجي ظاهر
بعد ثلاثة ايام وثلاث ساعات وربما ثلاث دقائق، بات كل منا، نحن الاثنين، هو مُهجّر الجبال وانا مهجر السهول، يفهم الآخر على نحو مقبول ومعقول، وبعد تمعن وادامة نظر توصلت الى ان ما يجمعنا قليل وما يفرقنا كثير. من بين ما جمعنا اشير الى الامور التالية: التهجير القسري، وهذا واضح من اول الكلام، الرغبة في عمل شيء ذي قيمة، وقد قدمني اليه احد الاصدقاء على اساس انني كاتب وبإمكاني ان اؤلف كتابا عن قريته الجبلية. الحلم بالعودة الى القرية المسترخية منذ سنوات بعيدة موغلة في البعد على سرير الخيال. اما ما فرقنا فقد تمثل في عدة امور لعل اهمها .. النظرة الى الحياة، ففي حين كان هو يؤمن ان الدنيا تؤخذ غلابا كنت انا اؤمن ان الدنيا تؤخذ بالحكمة والمنطق. الوضع الاجتماعي، ففي كنت انا كاتبا فقيرا ومجنونا، كما اوحى لي في اكثر من مناسبة ولقاء، كان هو تاجرا عرف طريق الربح، فمشى فيه مرتقيا جباله العصية ومتحديا كل عقلاء العالم. باختصار كنت انا احمل القلم في حين هو يحمل الشبرية.
مع هذا كله ابتدأنا في تأليف الكتاب، وكان كلما مضى الوقت يغذ انطلاقته الى ذراه العالية المرتفعة، يسالني كم من صفحات الكتاب تبقى لنا ليكتمل؟ فكنت انظر اليه باستخفاف من ايقن ان من قبالته يقوم بعمل لا يعرف قيمته ومدى نفعه، وكنت اضيف قائلا: ان تأليف كتاب يحتاج الى وقت وجهد، واننا اذا ما اردنا ان يكون كتابنا العتيد مستحقا للقراءة واهلا للترحيب، فانه يُطلب منا ان نكون دقيقين فيه، فلا نصدره الا بعد ان نتأكد من مصداقية ما ضمه من معلومات.. وجمالية ما قدمه من دفء نحتاج اليه، نحن المهجرين الفلسطينيين، اكثر من كل مهجري العالم. 
ما ان كان مروح ابو النعجة، وهذا اسمه ولقبه ايضا، يلتقي بأحد ممن يفترض ان نلتقي بهم لتأليف كتابنا العتيد، حتى يحذره من عدم الاطالة في الحديث توفيرا للجهد والوقت. في احدى زياراتنا لشخص مسن عاش الاحداث وخبر لسع بارودها، نبهته قبل اللقاء به، الى اننا يُفترض ان نستمع لكل كلمة يقولها باهتمام شديد، وشرحت له السبب قلت له اولا تشجيعا له على الادلاء بكل ما في جعبته من معلومات هامة، وثانيا، احتراما لسنه وتجربته. شعرت انه وافقني الرأي، الا ان احساسا خفيًا شدّني الى الناحية المعاكسة. وقد تأكد احساسي هذا بعد دقائق من اللقاء بذلك الشخص، فما ان امضى بضعة دقائق في الحديث عن القرية، تاريخها ومن قتل من اهلها على ابوابها في عام التهجير، حتى سأله ابو النعجة: والنتيجة.. ماذا كانت النتيجة؟ غضب مضيفنا منه، وبدا ان زيارتنا له في بيته قد انتهت، فما كان منا الا ان حملنا نفسينا، انا السهلي ومرافقي الجبلي، وخرجنا من ذلك البيت شبه خائبين. ما ان ابتعدنا عن بيت مضيفنا حتى اخذ مرافقي يكيل له الشتائم والسباب ويطلق عليه صفات نسوية، الامر الذي استفزني فاردت ان ارد عليه بعنف اكبر، وان اقول له انه هو من يستحق مثل تلك الصفات النسوية التي اطلقها على مضيفنا.. بسخاء انسان بخيل، غير انني ابتلعت ما اوشك ان يخرج من فمي من كلام، ومضيت مفضلا طريق توثيق بلدات الوطن.. بسهولها وجبالها.. وما يحتاج اليه ذلك التوثيق.
مثل هكذا مواقف تكرر فيما بعد اكثر من مرة، ما استدعاني لأن اطلب من نعجيي جلسة تفاهمية على فنجان قهوة فلسطينية، وعندما جلسنا في بيته الفاره على راس الجبل، بادرته سائلا اياه، عما اذا كان يريد ان نواصل تأليف كتابنا؟ فحدجني بنظرة مستخفة، واجابني وهل عندك شك؟، عندها قذفت معظم مشاعري المتراكمة في صدري تجاهه، قائلا له: نعم عندي كل الشك. تحرك التاجر في داخله فقال لي: كنت متحسبا لهذا. انت لا تريد ان تواصل العمل في الكتاب.. قل هذا منذ البداية. ما ان سمعت رده هذا حتى تحرك الكاتب في، فقلت له لو لم اكن اريد ان اؤلف كتابي هذا ما كنت اقطع كل ما قطعته من مسافات نحو كتابته. غرس عينيه في: قل انك لا تريد مواصلة تأليف الكتاب.. فقلت: ولماذا لا اريد ما دمت قد وافقت؟، فازور عني وهو يقول هناك سبب لا اريد ان ابوح به. وبرطم بكلام كثير.. فهمت منه ان قريته الجبلية تستحق اكثر من كل قرية سهلية.. ان يوثق لها ويكتب عنها. 
لم اعر ما قاله النعجي في تلك الجلسة الحادة مثل شوك صبار الجبال، اي اهتمام فقد طلبت منه.. تلك الجلسة.. لمواصلة عملي في تأليف الكتاب، بهدوء وسكينة.. يعرف ما يحتاج اليهما مَن سلك سبيل تأليف الكتب.. حق المعرفة. وليس للتوقف عن تأليفه، ذلك لو انني اردت ان اتوقف عن تأليف كتابنا، لكففت عن اللقاء بأبو النعجة، وانتهى الامر خلال دقائق، اما وقد ناقشته فقد كان من المفروض، انني اريد المواصلة، وان رغبتي في التأليف اكبر بكثير من اية حماقة يمكن ان تواجهني.. او اصطدم بها.
بعد ثلاث سنوات وثلاثة ايام، وربما وثلاثة دقائق، زففت اليه امر فروغنا من تأليف الكتاب، مضيفا ان وقت مراجعته واعداده للنشر قد حان،.. فوجئت بابي النعجة يطلب مني ان اقدم له مخطوطة الكتاب لتقديمها الى المطبعة، وعندما اخبرته ان الكتاب يحتاج الى عمل لا يقل عما مضى من وقت، انفعل وشرع في شتم الكتب والكتاب، بل اذكر انه شتم كل من التقينا بهم من اهل بلدته وناسها، وكاد يوجه الي بالاسم الشتيمة تلو الشتيمة لولا بقية من خجل. مع هذا غيّر توجهه وسألني بغتة عن احوال بقر السهول. فقلت له باندفاع عاصفة ان حالها لا يختلف عن حال حمير الجبال الا في امر واحد. عندها وضع يده على شبريته وسألني بلغة من ازمع ارتكاب جريمة: وما هو هذا الامر يا حضرة الكاتب؟ عندها قلت له: تأليف الكتب. في تلك اللحظة بالتحديد والوعيد.. استل شبريته من غمدها ونزل تمزيقا في الكتاب.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

8- حوادث مائية
قصة: ناجي ظاهر 
سمعت عن فالح الحلواني وقرأت له الكثير قبل ان تجمعني به زمالة في الصحيفة التي يعمل فيها، لهذا عندما قدمني اليه مرافقي الى غرفة مكتبي المشترك معه في الصحيفة، لم اشعر انني لا اعرفه، علما ان ذاك كان اللقاء العملي الاول بيننا. بعد ان اتخذت مجلسي قريبا جدا من مجلسه، رحب بي قائلا:" اهلا وسهلا بك في بيتك"، واضاف يقول.. ان اهم ما يهمه هو النظافة، وانه يتسامح في الكثير من الامور الا في امرها.. فهي خط احمر، في حياته وفي عمله وفي كل ما يقوم به ويفعله على الاطلاق.
بعد قليل استخرج زجاجة ماء من حقيبته اليدوية ووضعها على الطاولة امامه. قائلا الآن ابتدأنا العمل. بعدها تحدث في امور تتعلق بالعمل واهمية ان ننفذه بالسرعة المطلوبة فدواليب المطابع لا تنتظر وتحتاج دائما وطوال الوقت الى ما تشغل نفسها به. بعدها لاحظت انه تناول زجاجة الماء وشرب منها ثلاث مرات خلال وقت قصير، وعندما خرج لقضاء بعض حاجته يا للمصادفة، جاء زميل صحفي من غرفته المجاورة لغرفتنا، تناول زجاجة الماء، وشرب منها، ليعيدها الى موقعها بالضبط حيث جلست مثل عروس في ليلة صمدتها.
ما ان اعاد الزميل زجاجة الماء الى مكانها وخرج، حتى عاد الزميل فالح، وكان اول ما نظر اليه: زجاجة الماء، "هل شرب منها احد"، سال، وعندما بقيت صامتا، انتقل الى الغرفة المجاورة، ليعود برفقة الزميل شارب الماء من الزجاجة، واشار الى الزجاجة قائلا:" الم نتفق على الا تشرب من زجاجتي.. نسيت؟"، ابتسم الزميل:" لم انس لكن ما الذي يضايقك؟"، "لا يضايقني اي شيء"، واستخرج زجاجة ماء مغلقة بورقتها من حقيبته اليدوية، وقدمها له وهو يقول:" هذه كلها لك، اذا احتجت مرة اخرى الى الماء، اطلبه وسوف اقدمه لك، ارجو الا تشرب مرة اخرى من زجاجتي الخاصة. 
غادر الزميل غرفتنا، تناول الزميل الحلواني زجاجة الماء من على الطاولة امامه، والقى بها في سله المهملات، بغضب من فاض به الكيل ولم يعد بإمكانه ان يصبر على ظلم يلحقه اخرون به، وغادر غرفة المكتب، ليعود بعد حوالي نصف الساعة، حاملا ثلاث زجاجات مملوءة بالماء المكرر المنقى. قدم لي واحدة، وهو يقول:" هذه هديتي لك، لئلا يصيبك مثل ما اصاب زميلنا"، فهمت رسالته تمام الفهم، هززت راسي موافقا اياه ومتفهما رغبته في الا يشاركه احد وضع فمه على فم زجاجته المائية. لاحظ تأدبي هذا، بعدها وضع احدى الزجاجتين الاخريين في حقيبته اليدوية، والاخرى مكان تلك التي قدفها الى سلة المهملات، قذفة صاروخية.
في اليوم التالي كان اول ما فعله هو انه دخل الى غرفة مكتبنا المشتركة، هو وانا. وضع زجاجة الماء "المنرالت" امامه على الطاولة، شرب منها جرعة كبيرة، احكم اغلاقها واعادها لتتخذ مكانها الموقر امامه على الطاولة، واندمجنا في العمل، لينتهي يوم.. وبعده يوم اخر، ولافهم مع مضي الايام، انه مشمئز شديد الاشمئزاز، ولا يضايقه في الدنيا شيء كما يضايقه ان يشرب احد من زجاجته، وكثيرا ما كنت اتمعن في هيأته وهو داخل، واحيانا وهو خارج من المكتب، فأرى الى شعراته المنتصبة وراء رقبته، وانزل رويدا رويدا لاتمعن جسمه الضيق من اعلى الطويل من اسفل، فأتساءل عما اذا كانت ملامحه هذه تدل على عبقرية ما؟ وكان يزيد في تمعني له، نظراته الذكية الحافلة بالفطنة، كما انعكس في كل ما قام به من اعمال كتابية لفتت اليه الانظار بصورة تكاد تكون يومية ودائمة.
تواصل عملنا معا فترة اشهر، وكنت كل يوم اراه انسانا جديدا في كل شيء الا في مسالة زجاجة الماء، ومما لفت نظري خلال هذه الاشهر، حادثة مائية صغيرة، كدت انساها، وقعت عندما دخل رئيس التحرير غرفتنا المشتركة وتناول زجاجة الماء من امامه، وهو يقول:" سأقدم هذه لضيف طارئ.. نفذت من عندي زجاجات الماء فجأة". مضى رئيس التحرير حاملا زجاجة الماء، لأنظر الى زميلي الحلواني، وقد احمر وجهه وصمت كأن على راسه الطير، وتمتم بكلمات فهمت منها ان هذا الموقف البسيط سيتسبب له بشيء من الازعاج. عاد رئيس التحرير بعد حوالي ربع الساعة حاملا زجاجة الماء، وضعها امام الزميل الحلواني، وهو يقول له:" لم يشرف منها هاانذا اعيدها لك بالحفظ والصون". 
ارسل الحلواني نظرة غاضبة الى كل مكان تمكن من الصول اليه بنظره، وما ان غادر رئيس التحرير غرفتنا حتى تناول الحلواني الزجاجة، وقذفها الى سلة المهملات قائلا:" قال لم يشرب منها احد.. قال.."، وغادر المكتب، ليعود بعد اكثر من ساعتين، ولافهم من كلمات بسيطة جمعتها من تأففاته بشق الانفس، انه اضطر للمغادرة الى بيته المستأجر في مكان بعيد نوعا عن مكاتب الصحيفة، اما السبب فهو افتقاده للنقود في تلكم اللحظات. فتح الحلواني حقيبته اليدوية هذه المرة ايضا واستخرج منها ثلاث زجاجات مملوءة بالماء المنقى الصافي، وقدم واحدة لي، فوضعت يدي على صدري علامة انني اتقبلها واعيدها اليه مُعزّزة مُكرّمة، هذه المرة وضعها على الطاولة امامه في مكان سابقاتها بالضبط، ووضع شقيتيها المتبقيتين في حقيبته اليدوية احتياطا لاوقات المصائب.. وتوقيا لنفاذ الزجاجات المائية.
بعد حوالي العام من بدئي العمل معه والى جانبه، كنت قد فهمت كل شيء عنه وعن عاته المائية المصفاة، فتجنبت كل ما اعتقدت انه سيتسبب له باي ازعاج، الامر الذي دفعه لان يرسل الي نظرات الاحترام والتقدير واحدة تلو الاخرى، بل انه لم يتردد بالإشادة بي وبكتاباتي امام كل من يلمس منه اهتماما بالكلمة وعالمها الرحيب. اما الامر الاهم.. هو انه أنس لي بعد كل تلك الفترة وخاطبني اكثر من مرة بصفتي صديقا له. في هذه الفترة ذاتها دخل الحلواني ذات صباح غرفتنا المشتركة في مكاتب الصحيفة، واخبرني انه سيقوم برحلة تستغرق نحو الشهر الى العديد من بلدان العالم، وذلك بهدف الكتابة السياحية عنها. وقال لي:" اعرف انك قدها وقدود.. انت ستسد الغيبة".
بعد حوالي الشهر عاد الزميل فالح الحلواني الى غرفتنا المشتركة في مكاتب الصحيفة وبيده ثلاث زجاجات مملوءة بالماء، كعادته حاول ان يُقدّم واحدة منها لي، فوضعت يدي على صدري علامة القبول والرفض المؤدب في الآن ذاته، فوضعها على الطاولة امامه، بعدها وضع الزجاجتين المتبقيتين، في حقيبته اليدوية، وارسل نحوي نظرة طويلة، انفجر بعدها في الضحك،" ما الذي يضحكك؟"، سألته فرد:" هذه حكاية شرحها يطول". احترمت ما قاله عن الحكاية وشرحها، غير ان رغبتي في معرفة الحكاية وشرحها الطويل، الحّا علي، وعندما تذكرت اقاصيص الزجاجات المائية، سالته مباغتا اياه:" ما اهم ما صادفك في رحلتك السياحية هذه؟"، فانفجر في الضحك مرة اخرى، وقال لي: "التقيت بالعيد من ابناء الشعوب المختلفة. واهم ما لفتني هو ان كل الشعوب تعتقد انها الافضل على وجه البسيطة، وهي في الواقع الاقرف"، افترشت وجهي ابتسامة عريضة، اعتقد ان شريكي في الغرفة بات يعرفها جيدا، فتشجع الحلواني على شرح الحكاية، قال:" كان ذلك في احدى القرى النائية، وخلال زيارة مختار تلك القرية تمخط بيده ومدها من فوره الى جاط شمام مقطع للأكل. تناول قطعة منه وقدمها لي..."، ما ان قال الحلواني كلماته هذه حتى رأيت وجهه ينكمش اشمئزازا، وشعراته تنتصب اكثر وراء رقبته. وتابع يقول:" كان ذلك الموقف محرجا، لكن صديقك يُعتمد عليه في مثل هكذا مواقف صعبة.. تناولت منه قطعة الشمام، غافلته وفتحت حقيبتي اليدوية وقذفتها فيها، مختار القرية اعتقد انني اكلتها فتكرم علي بالقطعة الشمامية تلو الاخرى، حتى صفّت الشمامة المقطعة امامه.. في حقيبتي..". دخلنا بعد هذه الحكاية في نوبة من الضحك الحقيقي، ولكل منا سببه في ضحكه ذاك، لأساله عما اذا كان سيشرع في نشر تقاريره عن زيارته تلك، فقال لي:" الشمامة خرّبت كل التقارير..". سالته:" خربتها كلها؟"، فرد بسرعة:" لا تقلق كتبت غيرها عن تلك البلدان التي زرتها.. وعن قرفها وقرف اهلها ومخاتيرها كمان".

 

 

 

 

 

 

 

 

9- سر العمة نعيمة
قصة: ناجي ظاهر
احب ركاد عمته نعيمة، الا انها لم تبادله الحب، وكان كثيرا ما يشعر انها تبتعد عنه كلما اقترب منها، الامر الذي اثار حب استطلاعه، ودفعه كلما دخل الى البيت، للنظر الى باب غرفتها، فاذا ما رآه مقفلا عرف انها هناك، اما اذا كان مفتوحا فإنها تكون خارج البيت،.. اما تُقدّم الحقن الطبية لهذا المريض المحتاج المقعد،، واما في عملها الجزئي في مستشفى "ملائكة الرحمة"، في المدينة. 
منذ فتح ركاد عينيه على الحياة، في بيت اهله الضخم الغائر في اعماق البلدة القديمة، استحوذ على اهتمامه حب معرفة عدم زواج عمته، ابنة الخمسين، وانتقالها للعيش مع اخيها وزوجته في بيتهما، وكان كلما مضت الايام الح عليه السؤال ذاته، فعمته اجمل من امه، ومع هذا امه تزوجت وهي لا.. لم تتزوج، وهي امرأة عاملة تعمل في مجال التمريض،.. وامه لا تعمل، لهذا كان يغتنم كل فرصة ليعرف سر عمته المعتم المضبب الخفي، فكان يحاول استراق السمع الى كل كلمة يستمع اليها عنها.. منها او من احد والديه، دون ان يحظى بأية اجابة شافية. 
كبر ركاد، واصبح في الثامنة عشرة من عمره، دون ان يعرف سر عمته، وكله رغبة في ان يعرفه، وكثيرا ما كان يدخل الى غرفتها عندما تكون أبوابها مشرعة على مصراعيها، فيتأمل كل ما تقع عينه عليه، لعله يجد الإجابة الشافية لسؤال بات يقلقه ويقض مضجعه، غير انه كان يخرج من الغرفة بالضبط كما يدخل اليها.. اقل معرفة واكثر جهلا.. "اه لو اعرف سر بابك المغلق يا عمتي الجميلة"، كان يقول في نفسه، وهو يرسل نظرة آملة مستطلعة، الى الصورة الوحيدة التي علقتها في غرفته: صورة السيدة العذراء. في احد الايام تمعن ركاد في ماسك مفاتيح عمته، فلفتت نظره ايقونة ليسوع الناصرى، كان يبدو فيها.. في اطيب.. وارق منظر. حاول ركاد ان يربط فيما بين ما رآه في غرفتها وبين مفاتيحها، الا انه لم يخرج بأية نتيجة، فهو يعرف ان عمته امرأة متدينة وانها تتردد كل يوم احد على كنيسة المدينة، لتؤدي واجباتها الدينية كاملة وغير منقوصة.
مضت الايام.. وكان ركاد كلما نسي سر عمته، او انسته اياه الليالي والمشاغل، عاد يلح عليه، الى ان تعرف على ابنة الجيران، وراح يواعدها سرا.. بعيدا عن عيون الناس، وكان كثيرا ما يلتقي بها بسرعة ويفترق عنها بسرعة اكبر. في لحظة الصفر من احد لقاءاته بمن اختارها قلبه، ما ان رفع راسه في محاولة لاستطلاع الاجواء، حتى رأى عمته نعيمة فوق راسه بالضبط. احمر وجهه واحتار فيما عساه يقول لها، الا أنها اراحته من الإحراج والعناء، ومضت في طريقها باتجاه البيت في اعماق البلدة القديمة.
تعمد ركاد ان يتأخر في العودة الى بيته، ودخله متسللا على رؤوس اصابعه تجنبا لعمته، غير انه رآها على غير عادتها وقد اتخذت مقعدها في غرفة الاستقبال، حاول ان يتجاهل الموقف، مثلما فعل في مواقف محرجة نوعا ما وقعت له في السابق، وفوجئ بها اكثر تجاهلا منه، لماذا هي جلست هناك على غير عادتها"، سال نفسه وهو يغرق في بحر حيرته. 
مضت الايام تغذ انطلاقتها الى المجهول، الى ان المت وعكة صحية خفيفة بالعمة نعيمة، ما لبثت ان اشتدت عليها الامر الذي دفع والديه، لنقلها الى مستشفى" ملائكة الرحمة" في المدينة، وكان ركاد يزور عمته نعيمة يوميا وعلى مدار الساعة تقريبا، فقد وجد نفسه يتعلق بها كما لم يتعلق بإنسان آخر، وبدا خوفه عليها واضحا، فبذل كل ما في جهده لان يخفف عنها، وفي ان يساعدها في الابلال من مرضها، وجاءت النتيجة الطيبة، شفيت العمة نعيمة وعادت الى غرفتها، غير انها لم تعد قوية كما كانت، وبدا الهزال عليها واضحا جليا، فبدت اكبر من عمرها بعشرة اعوام، كأنما هي في الثمانين. بعد عودتها هذه شعر ركاد بتغير طفيف في توجهها نحوه، بل انه احس في احدى جلساته اليها، انها ستكشف له سرها وستفتح امامه باب غرفتها المقفل، غير ان ظنه خاب. 
في احدى الليالي الطويلة شعر ركاد بحركة غريبة وغير مألوفة في غرفة عمته نعيمة، فاقترب من باب الغرفة متسللا على رؤوس اصابعه، ليرى عمته وقد جثت امام صورة العذراء النصراوية.. وراحت تناجيها بكلمات هيمن عليها الغموض، بالكاد فهم منها انها تطلب المغفرة لكل الخُطاة في العالم. اثار هذا المشهد مشاعر ركاد الخفية نحو عمته، فدخل غرفتها وجثا الى جانبها على ركبتيه، ضاما ضراعته الى ضراعتها، ومبتهلا الى العذراء طالبا منها انقاذ خُطاة العالم.
ارسل ركاد نظرة مستطلعة الى وجه عمته، فشعر بشبح اشبه ما يكون بشبح الموت يتلبس وجهها، شعر بنوع من الرهبة، غير انه لم يستسلم لمشاعره، بل ان دمعة لمعت في عينيه. بادلته عمته النظر:
-هل تذكر يوم رأيتك فجأة مع تلك الفتاة؟
- اذكر يا عمتي.. اذكر.
-اما زلت على علاقة بها؟
-طبعا يا عمتي.. ما زلت على علاقة بها. لكن لماذا تسالينني؟
طفرت دمعة من عيني العمة: "اعتقدت انك قطعت علاقتك بها". وربتت على كتفه مضيفة: "لا اريدك ان تعبث بمشاعر بنات الحارة، فلهن قلوب تشعر وتحس".
اقترب ركاد من عمته أكثر فأكثر. انتابه شعور شديد بأنه على حافة سرها العظيم يقف، احتضنها بقوة سبعين عاما من الاهتمام والمحبة المضمرة. شعور طاغ انتابه انه انما يحتضن من اختارها قلبه، ابنة الجيران بالتحديد. واندمج الاثنان ركاد وعمته اول مرة.. اندماج من عرف سرا اقلقه طوال ايام حياته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

10- مرأة القوقعة
قصة: ناجي ظاهر
تسللت اشعة الشمس عبر الستائر المنسدلة على نافذة البيت الكبيرة، ارتطمت بوجه الام المسترخية على سريرها القريب من النافذة، فتحت عينيها وغمضتهما. قبل قليل غادر زوجها الى شانه، احست به حين فتح الباب وخرج بخفة كائن محتملة.. كي لا يوقظها، هي تعرف انه بات رحيما بها اكثر منذ وقعتها الاخيرة، لقد كادت تفقد حياتها لولا رحمة الله.. ومحبة الابناء. هي لا تنكر ان ابناءها، حفظهم الله وشملهم برعايته، أدوا الواجب واكثر.. خلال وقعتها تلك، وقد واكبوها، منذ مغادرتها الاسرة البيضاء، حتى عودتها الى بيتها ذاك، محيطين اياها بكل ما في الدنيا من محبة وحنان. في بداية ابلالها النسبي من وقعتها "اللي ما تتسمى"، واصلوا زيارتها يوميا، بعدها اخذت زياراتهم لها، في التقلص الى ان تحولت من يومية الى اسبوعية، بعدها تحولت الى مرة كل اسبوعين، فمرة كل شهر،، وبعدها مرة كل سنة. منذ مغادرتها المستشفى ولزومها بيتها، ابتدأت تشعر بالوحدة الرهيبة تحيط بها من كل جانب، لا احد يشعر بها سوى زوجها، الا انه كبر وبات مريضا متعبا بطئ الحركة. ازاحت الستارة واطلت على الخارج، النهار يتعالى وموعد مجيء ابنائها كما توقعت يقترب. بعد قليل سيمتلئ البيت بالأبناء والاحفاد، هذا اليوم سيكون مختلفا بطعمه لونه ونكهته.
الابناء يتدفقون الى بيتهم الكبير القديم واحدا تلو الآخر، الحمد لله كل من ابنائها، خاصة بناتها يرافقه عُرّ من الابناء. اتخذ كل منهم مجلسه قريبا منها والى جانبها، التفوا حول سريرها مثل طوق من الورد، تحياتهم :"كل عام وانت بخير يا امي"، لها هذه المرة طعم آخر، تنظر الى ابنائها وبناتها واحدا واحدا، تنتقل بعدها الى ابنائهم، كم يشبه هؤلاء الاحفاد ابناءها وبناتها، بل انها تشعر بانهم يشبهونها هي ايضا، تبادر ابنتها الصغرى الى هديتها، تزيل عنها لفّتها الورقية وبعدها الكرتونية، تقدم هديتها لها، راديو متوسط الحجم. " بدي اياك تتسلي"، يأتيها همس ابنتها من بعيد. بعدها يتتالى الابناء والبنات في فتح هداياهم وتقديمها اليها. اكثر هدية اعجبتها كانت فيديو كلب طريفا لأغنية " ست الحبايب"، الصور في "الفيديو كلب"، تحكي حكايتها مع ابنائها وكأنما وقتها لم يمر، كأنما هم ما زالوا صغارا. تختلط في مخيلتها الصور، بالأمس القريب كان ابناؤها اطفالا صغارا يضج بهم البيت، وها هم اليوم يأتون مع ابنائهم وبناتهم، وكأنما هم يعيدون فيلما قصيرا، سبق وشاهدته في الماضي، وها هو القدر يمكنها من تكراره.. لتراه مرة اخرى في حياتها وبصيغة اخرى.
التفاف ابنائها حولها اليوم يبعث فيها الحياة، تنسل من بينهم، تتوجه الى زاوية المطبخ، تجمع كل ما اعدته لهم من حلويات ومكسرات. تعود به لتضعه على المنضدة امام كل منهم، تنتبه بناتها الى انسلالها ذاك من بينهم، فيبادرن واحدة بعد الاخرى، لتوجيه العتب المحب اليها:" خلي عنك يما.. تتحركيش من محلك اليوم". كلمات الايثار، تنهال عليها من حول المنضدة الحنون، تدفع الحياة في عروقها، هذه هي الحياة مشوار قصير، يمضي في غفلة منا، لنجد انفسنا وقد كبرنا ومضى قطار ايامنا شاقا غبار الزمن.. 
سبحان الله ها هو بيتها على غير عادته يضج بالحركة، تعلو ثغرها ابتسامة خفيفة تلفت نظر ابنتها الكبرى، فتقول لها، اليوم هو يومك يا ست الحبايب، بدناش اياك تتعبي بالمرة، احنا بنسدّ عنك اليوم، بدنا تشعري انك الملكة. تمد يدها تمسك بيد امها تستخرج زجاجة مناكير ذات لون احمر فاقع من حقيبتها القريبة منها، تستعرض اصابعها واحدا واحدا، بعدها تشرع بطلي اظفارها باناه وترو. تعود بها الذاكرة الى سنوات بعيدة، بعيدة، في يوم مشابه لهذا فعلت نفس ما تفعله كبيرتها مع امها، يومها ابتسمت امها فشعرت ان الوردات على نافذة بيتها شاركنها الابتسامة. 
تتساءل ابنتها الصغيرة:" وين ابوي"، هذه الصغيرة لا تنسى شيئا، انها دائمة الحركة ودائمة السؤال، بل دائمة المحبة، هي تذكرها بنفسها ايام كانت في مثل عمرها، كانت تربط شعرها ذيل فرس، وفي مواقف مشابهة تتذكر الغائبين من ابناء عائلتها. "طلع ابوك من الصبح". تقول لها، وتضيف" اكيد هو عارف انكوا رايحين تيجوا اليوم، قلبي بقلي انه رايح يجي اسه .. كمان شوي". بعد حوالي ثلاث دقائق يُسمع طرق على الباب، تتوجه الى ابنتها الصغرى، انها لا تكبر.. مهما كبرت، تقول لها: "هذه دقة ابوك. افتحيله الباب".
تتوجه انظار الجميع، الابناء والاحفاد، نحو باب البيت، يدخل زوجها ابو الابناء، كم كبر خلال مرضتها الاخيرة. اول ما فتحت عينيها بعد وقعتها اياها، كان هو يرسل نظراته اليها راجيا اياها ان تقوم:" بديش ولا اشي.. بس قومي" يومها تابع هامسا بصوت اراد ان تسمعه هي فقط:" بديش لا دور ولا املاك. قومي عشان اعوضك". بعد ان قامت من وقعتها، شعرت به اكثر حنانا، واكثر رقة في التعامل معها، وعندما كان يضطر لمغادرة بيته تاركا اياها وحيدة، كان يعتذر لها قائلا:" مش راح اطول.. ديري بالك على حالك"، وكثيرا ما كان يقول لها:" شغلي تلفونك اتصلي ببناتك باخواتك. بديش اياك تشعري باي وحدة". 
يدخل زوجها، يتخذ مقعده قريبا جدا من سريرها، تنتشر الابتسامات على وجوه الابناء، الان بإمكان كل منهم ان ينصرف الى شأنه. ترسل نحو كل مُولٍّ منهم باتجاه باب البيت، نظرة حافلة بالاسى، يعود الهدوء القاتل ليخيم على نافذتها وستارتها مجددا. يستأذن زوجها منها، ليدخل غرفته الملاصقة لغرفتها، "اذا احتجت لأي اشي ناديني". ترسل نظرة اليه لقد كبرنا.. ختيرنا معا.
يفرغ البيت، يعود الى ما كان عليه في صبيحة اليوم، تشعر بالوحدة تحيط بها من كل جانب، يلح عليها شعور غريب، يحملها الى نافذة بيتها المطلة على الشارع، ترى ابناءها يعتلون سياراتهم واحدا تلو الآخر. ويولوّن بعيدا.. بعيدا.. تتساءل عما اذا كانت ستعيش حتى اليوم المقابل لهذا اليوم من العام القادم. وهل سيتلم ابناؤها حولها مثلما فعلوا قبل قليل؟ وتعود الى قوقعتها.. ووحدتها..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

11- الغزال المرشد
قصة: ناجي ظاهر
ابتدأ كل شيء خلال تصفحي لصفحات الفيسبوك، كان ذلك عندما وقعت عيني على صورة فتاة جميلة سبحان من كون ومن صور، تحت الصورة قرات اسمها:
قمر سالم البيك
والى جانب الاسم عنوان خبر عن مهرجان سينمائي، يعرض في المدينة. استفزني الاسم والخبر، فأقبلت على الخبر لأقراه وأتأكد مما تداعى الى ذهني من افكار وذكريات. كل ما خطر لي كان صحيحا. اما سليم البيك فهو محام صديق جمعتني به الاجواء خلال عملي في صحيفة وطنية صافية، قبل اكثر من ثلاثين عاما. كان سالم البيك يومها محاميا صلب الموقف متماسك الراي، وكان اعزب في الثلاثين من عمره، عندما سالته لماذا هو لم يتزوج حتى الان، قال لي انه قرر ان يتزوج القضية، بالضبط مثلما فعل قائدها الاول، وعندما سالته لماذا اخترت مهنة المحاماة، رد علي بقصة تشبه الحكاية، مفادها انه من قرية عين غزال المهجرة وانه اراد منذ تفتح وعيه ان يكون ابنا بيارا لأبيه الراحل، وسوف يعمل كل ما بوسعه للدفاع عن حق العودة، وعن كل من تعتقله السلطات او تسجنه بسبب آرائه السياسية.
بعد فترة وفد الينا البيك لزيارتنا كعادته، ولاحظنا انه برفقة صبية شابة ذكرتنا بظبية عاشت في اخيلتنا منذ ازمان بعيدة سحيقة.. موغلة في البعد، وبما ان البيك قرر في تلك الفترة ان يكتب زاوية صحفية يُعلّم فيها من يخرج عن خط الوطن درسا لا ينساه، عبر لسعة زقرطية فلسطينية شبعانة من ازهار بلادنا الحبيبة، فقد اتفقنا على اطلاق صفة النحلة على مرافقته التي تحولت في اللقاء زيارته الثانية ليقدمها لنا على انها خطيبته لقب النحلة، بعد سنة من تلك الايام، في الخامس عشر من ايار بالتحديد، ارتبط المحامي زقرط البيك بنحلته. وقد سالته في اول زيارة له بعد ارتباطه بنحلته عن سبب تغييره رايه في مسالة الزواج، فرد علي قائلا: لا رد.. ولا تعليق. تقبلت رايه باحترام كبير ولم اناقشه فيه، فقد كنت واثقا تمام الثقة انه انسان عاقل، وان حلمه بالعودة الى عين غزاله، ستبقى بوصلته الموجهة له في صحراء العرب، سواء ارتبط او لم يرتبط. وتمر الايام وتغلق السلطات صحيفتنا، لنتفرق كل في مكان، فتفرقنا السبل والمشاغل، وهاانذا اصطدم باسم كريمته قمر، ممثلة في فيلم سينمائي يعرض في مهرجان بإمكاني حضوره ومشاهدة ما يعرض فيه من افلام. ترى.. عماذا يتحدث فيلم قمر سالم البيك، ابنة الزقرط اللاسع.. والنحلة المعطاء؟ تساءلت، وانا اعرف انه لا جواب قبل مشاهدة الفيلم العتيد.
يوم الخميس في الساعة السابعة الا خمس دقائق، كنت انتظر قبالة مبنى السينماتيك وكنت ارسل نظرة آملة الى لافتة الاعلان المعلقة على واجهة المبنى، ضمن محاولة استجلاء بت بحاجة اليها، انا الانسان الحالم، رفيق والد ممثلتنا الشابة سالم البيك، الزقرط افندي. بما ان قراءة ما ضمته اللافتة، رغم ضخامتها، من صور وكتابات، لم يكن واضحا لي، ربما بسبب المرض والعمر المتقدم، كان لا بد من الاقتراب من تلك اللافتة لأمتع ناظري برؤية قمرنا، ولأقرأ اسم الفيلم التي ستمثل فيه. كان اسم الفيلم بالضبط كما توقعت:" عين غزال". 
بينما انا مستغرق بين ماضٍ حافل بالذكريات والمحبة للارض، عصافيرها، اشجارها واعشابها، شعرت ان الحركة ابتدأت تدب في كل مكان، وان الناس اخذوا يتوافدون زرافات ووحدانا، وما ان تلتف حولي لاستطلاع العابرين كعادتي، حتى وقع نظري على قمر وقد نزلت من سيارة فارهة يرافقها عدد من المشجعين المحبين، لمعت قمر كباقي الوشم في ظاهر اليد، واختفت في زحام المتجمهرين بانتظارها، حاولت ان الحق بها ان اقول لها كلمة تشجعها على المضي في طريقها الى قرية الآباء والاجداد، عين غزال، الا انها ما لبثت ان اختفت في الزحام، ودخلت الى دار العرض، لتكون ضيفة العرض، كما قرات قبل قليل. "سأحاول الاقتراب منها بعد العرض. سأحكي لها حكاية تلك الصحيفة، وقصة ذلك الزقرط العنيد وتلك النحلة المعطاء.. الرائعة". قلت لنفسي، ودخلت من بوابة السينتماتيك.
عندما اتخذت مقعدي المفضل حين حضوري الافلام في الصف الثالث ابتداء من الاول، المقعد الاول، كانت القاعة مضاءة، وكان الناس يتوافدون واحدا تلو الاخر، ارسلت نظرة الى صف المقاعد الاول فرأيت قمر البيك، تتخذ مجلسها هناك مثل عناة الكنعانية، كانت اشبه من تكون بآلهة في اهاب صبية، ذات اصل وفصل. اظلمت القاعة ايذانا ببدء العروض، كانت الافلام وثائقية قصيرة، ينتهي فيلم ليبتدئ آخر، وكما قرأت في اللافتة الضخمة قبل قليل، جاء فيلم "عين غزال" الذي انتظرته طويلا، مسكا لختام المهرجان.
تابعت احداث الفيلم بحالة من النشوة على غير عادتي في متابعة الافلام السينمائية، وكنت اتابع اللقطة تلو اللقطة، وحمدت الله انني لم ارافق احدا لحضور المهرجان، فقد كنت انتظر كل مشهد وكأنما هو يحكي عني انا المهجر الابدي، الباحث عن بيت وظل شجرة. ابتدأ الفيلم برواية قصة عائلة البيك، مُعّرفا بها وبأفرادها ومقدما اياهم واحدا واحدا بكلمات قصيرة. الزقرط بيك ما زال الزقرط القديم الذي عرفته قبل اكثر من ثلاثين عاما، والنحلة ما زالت كما هي ذات اطلالة مبهرة ونظرات حالمة. ببطء شديد ومنظم توصلت الكاميرا الى قمر عين غزال، ابنة احبائي القدماء، لتستعرض معها قصة حلمها بالعودة الى عين غزالها، لقد بكت تلك الرِئمةُ المقبلةُ من ماض تليد الى حاضر جديد، كما لم يبك احد، وسط اسراب الظباء المنطلقة في كل مكان، تجوب انحاء قرية مهجرة، غير انها توقفت فجأة لتقول لمشاهديها، انها لن تبكي اكثر، وانها ببكائها ذاك.. انما كانت تجسد دموع والدها، اما الان.. فإنها ستهتف في وجه العالم القاسي.. وسوف تنتصر لأبيها وجدها وكل من احبتهم من الناس، وتصرخ بملء صوتها: انا عائدة الى عين غزال.
عندها ضجت القاعة بالتصفيق، وتوقف العرض. اندفع المحبون والمؤيدون، باتجاه قمر وحملوها على الاكتاف، وهم يجرون حاملين اياها وراكضين باتجاه عين غزال.. ركض الموكب وركضت نحوه اريد ان اشارك فيها، اريد ان ارى قمر، اريد ان احمّلها تحياتي الى والديها.. غير ان الموكب، مضى مندفعا باتجاه تلك العين التي ابكت ابناءها وحان لهم ان يضحكوا.. عندما ابتعد الموكب.. حملتني قدماي الموهنتان جراء المرض والشيخوخة، وعدت شابا معافى بالضبط كما كنت قبل اكثر من ثلاثة عقود من الزمان.. وركضت نحو عين غزال مسترشدا بقمرها المكتمل المتألق.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

 

12- لغز الاختفاء
قصة: ناجي ظاهر
.. وتسالونني لماذا اختفيت.. لماذا ابتعدت عنكم؟ سؤالكم يتسبب لي بالكثير من الالم، ويفتح جرحا ما زال نازفا رغم مضي الوقت الكافي. جرح ترك ندبة لا تمحوها الايام وكلما نظرت اليها عدت الى الم ممض نغص علي ايامي وليالي.. الم اردت دائما ان انساه او اتناساه، ان اتجاهله عندما يلح علي في اوساط الليالي الطويلة. كم كنت اود الا توجهوا الي هذا السؤال، اما وقد وجهتموه وابيتم الا ان تعودوا الى الماضي فإنني سأجيبكم عليه، وسوف افتح دفتر ذكرياتي خلال وجودي معكم وبينكم، يا من اردتهم ان يجبروا خاطري فكسروه قلبي.
اعتقد انكم ما زلتم تتذكرون ايام جئت اليكم وقد سدت الدنيا منافذها كلها بوجهي، املا في ان تفتحوا انتم ابوابكم امامي، يومها دخلت بيتكم ومنذ اللحظة الاولى لوضع قدمي على ارض بيتكم شعرت انني بين اهلي واحبابي المنشودين، زاد في شعوري هذا تلكما العينان اللتان ارسلتا نظرة وحيدة تشبه نظرتي واختفت اختفاء برقة في يوم عاصف، يومها جلست اليكم، وجرت بيني وبينكم احاديث واحاديث، فهمت منها كل شيء عنكم، كنتم اناسا بسطاء من مهجري قرية " هندباء". كنتم باختصار تشبهونني.. انا المهجر الابدي،. وكنتم، وانا لا انكر فضلكم رغم كل ما فعلتموه بي واحدثتموه لي من الام، تستقبلونني بابتسامة وتودعونني بأفضل منها. اما انا فمنذ لمعت تلكما العينان من وراء احد ابواب بيتكم، وانا احلم بان اراها مرة اخرى. الى ان كان يوم ربيعي مشمس.
في ذلك اليوم قمت بزيارتكم كما كنت افعل في العادة، لأجد باب بيتكم مشرعا في وجهي، دخلت الى هناك وسط صمت قال لي انكم لستم هنا، واخذت اتمعن البيت واغراضه، في انتظار عودتكم من الخارج، ولفتت نظري صورة معلقة على جدار خفي لرجل يعتمر الحطة والعقال، كان رجلا معمرا، شعرت على الفور انه شخص مهم بالنسبة لكم، كانت ملامحه تدل على طيبة اصيلة ومتأصلة فيه، وقد اثارني ما لمست في وجهه من حزن، فعزوت ذلك الحزن الشفاف الى تهجيره من هندبائه، وقذفه لان يتشرد في طول البلاد وعرضها، باحثا عن طعام يقريه وملبس من البرد يحميه وسقف يؤويه. تمعنت في ذلك الوجه وطال تمعني، الى ان شعرت بحركة تخترق السكون المهيمن على المكان حوالي، يومها لم التفت الى الوراء، قلبي قال لي انني امام بوابة سرية بحثت عنها طويلا اقف. وانتظرت ان تكشف لي تلك الحركة عن نفسها، لا فاجأ بعد لحظة من الترقب والانتظار، كادت تكون دهرا، بصوت نسوي ناعم يأتيني من خلفي كأنما هو مطر ناعم في خريف بعيد بعيد:
-الا تعرفه؟
بقت صامتا، فعاد الصوت يُعرّفني:
-انه جدي الهندبائي. 
التفت باتجاه الصوت، لتحط عيناي في غابة نخيل اجمل عينين في الوجود.. مثل طائر ارهقه الطيران بحثا عن شجرة يرتاح فيها، ووجد تلك الشجرة الوارفة فجأة امامه وقبالة عينيه. كانت تلكما هما العينان اللتان رايتهما في اول عهدي بكم، توقفت مكاني، انعم النظر في تلكم العينين. كنت اشعر بنفسي في عالم آخر اتجول بين الاشجار والانهار، كأنما انا الابن الاول وكأنما هي البنت الاولى. غبت عن الوجود.. طائرا مُحوّمًا في عالم هلامي حالم. ما اجمل ان تجد نفسك فيما تمنيته ونشدته. بقيت على تلك الحال الى ان جاءني صوتها: 
-جدي كان رجلا حقيقيا بسيطا.. لكنه لم يكن متساهلا.
-اشعر بهذا. قلت وانا في غيابي عن الوجدان.
-حقا ما تقول؟ قالت بانفعال شديد، واضافت: كلامك يشبه كثيرا ما سمعته عنه. لكن كيف عرفت صفاته؟
-وجهه قال لي كل شيء. قلت.
وفاجأتني ببراءة غير متناهية:
-وماذا يقول لك وجهي؟
بقيت صامتا. خشيت ان اضايق اميرتي بأي كلمة، فعاد تكرر سؤالها، وعدت اتابع صمتي. وعندما شعرت بالفراغ الرهيب يحط بيني وبينها، مثل طائر اسود، قلت لها فيما بعد اخبرك. عندها اضاء وجهها بابتسامة ابرزت عمق عينيها، والحت علي، فاغتنمت الفرصة وتجرأت سائلا اياها عما اذا كان بإمكاني ان اراها في مكان اخر، لأنني لا استطيع ان اراها في بيتها، وفوجئت بها توافق على اللقاء بي.
اقترحت عليها من فوري ان نغتنم الفرصة للقاء الان الان وليس غدا، وتمكنا من اللقاء، وفي اول فرصة سانحة سألتني عما اراه في عينيها، فقلت لها بسرعة من يريد ان يكسب العالم كله بضربة حظ واحدة.. انني ارى فيهما الدنيا.
وحدث كما عرفت فيما بعد انها عند عودتها الى البيت، وجدتكم هناك، فشرع كل منكم بالتحقيق معها، مَن سمح لك بالخروج من البيت، اين كنت وماذا فعلت؟ وقد بقيت صامتة لم تصرح بما يدل على انها كانت معي، ما زاد في شككم انها فعلت امرا عظيما.. ادًا. وارتكبت جرما سيمرغ رؤوسكم في تراب البلد، اما انا فقد هيأت نفسي لان ازوركم في اقرب وقت ممكن، لطلب يدها، كي اضمها الى عشي الوحيد الدافئ، ولا اخفي عليكم انني بت اشعر، بعد ذلك اللقاء اليتيم بها ان الحياة بدونها لن تكون وانها تربعت على عرش قلبي وعيني.. زملكت قياد حياتي ووجودي. 
انني اشعر الان وانا اكتب لكم هذه الكلمات، بحسرة في قلبي ودمعة في عيني، لقد فقدت بفقدها كل شيء، وبت اشبه ما اكون بشجيرة عارية منكمشة على ذاتها قرب الطريق.. لقد تاهت باختفائها حياتي.. فبات من الصعب علي ان اعود اليكم.. الى هناك حيث اختفى قلبي.
ملاحظة: عندما تصلكم رسالتي هذه سأكون هناك لغز الاختفاء
في عالمي الاخر.. معها والى جانبها.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

13- كرائهية الشقة 7 
او: الصديقان اللدودان
قصة: ناجي ظاهر
احد الراسين
تعبت.. تعبت.. تعبت.. اضطررت لمرافقته خمسين الف سنة. شاخ امامي، كل حركة منه تتعبني. لا اريد ان اراه. ختيار كحتوت.. بخيل.. يحسب حسابا لكل شيء حتى للبصلة. كل فجر لازم اتصبح فيه. لازم اقله صباح الخير، وانا اعرف انه لا يتمنى لي.. لا الخير و.. لا غيره. في الامس قضى على كل شيء جميل بيننا. كان ذلك عندما جمعتنا جلسة مسائية. 
هو: اشم رائحة شيء يحترق.
انا: حقا ما تقوله؟
هو: الا تشم؟ هل فقدت حاسة الشم؟
انا: هلا كففت عن هذه اللهجة الاتهامية؟
هو: انا لا اتهم.. بقدر ما اتساءل.
هكذا تواصل النقاش بيننا، لا انا آخذ حقًا معه و.. لا هو يعطي حقا. لهجته المقنعة تجاهي.. هذه اللهجة المبطنة بأطنان مطنّنة من الكراهية، تزعجني ولا تدعني اغمض عيني.. انها تضغط علي حتى انني انام مفتح العينين. منذ التقينا، قبل ما اعرفه ولا اتذكره من السنوات، منذ اتفقنا على ان نقيم معا ونعيش جنبا الى جنب في شقة الشقية نمرة 7 وانا اشعر انه لا يحبني وان ادعى على الطالع والنازل انه مغرم بي، ويحب رسوماتي، ( نسيت ان اقول لكم انني انا رسام. وهو كاتب.. اسم الله عليه)، هناك موقف.. لا يمكنني ان انساه. وقف ذات يوم قبالة رسمة ابرزت فيها محبتي للقط الاسمر ابن الحلال عاشق درجات بيتنا، فقام بامتداحي قائلا انه لا احد في العالم يُدرك مثل تلك المحبة الكامنة في عينيه (القط)، مثلما ادرك انا. وعندما عرضت تلك الرسمة على اصدقاء واخذت اشرح، احلّل واعلّل، انتظر حتى انهي كلماتي.. وافرغ كل ما بداخلي من قوة، ونزل علي نزول صاعقة مباغتة. ما أقساه. عندما انفض السامر وبقينا، هو وانا وحيدين، ارسلت نظرة عاتبة اليه، فأكد لي ان دافعه الاول والاخير لما قاله، انما هو المحبة المعمرة.. الراسخة بيننا منذ دهور ودهور. 
اما قصة تلك الرائحة فقد تكررت في العديد من الاماسي. "لقد عافت نفسي هذه الرائحة اللعينة"، قال بنوع من التأفف، فرددت عليه:" هل تعتقد انها تأتي من ناحيتي؟"، لحظتها صمت وغرق في ضباب الصمت، ربما ليؤكد لي ان تلك الرائحة القاتلة انما تأتي من تحت رجلي، غير انه لوى عنق جواد كلامه، واكد لي انني اخ لم تلده امه، وان ما بيننا من تلال المحبة وجبالها.. يشفع له.. ارسلت نظرة اليه.. واضمرت ان اضع حدا لما اعيش فيه من الام وعذابات.. سببها هو وليس.. اي انسان اخر.
الراس الاخر
عجيب امر صديقي. شريكي في الشقة. طوال الوقت يُوجه الي الاتهامات.. تهمة بقفا اختها. تعبت منه. هو دائم الاتهام لي. فاذا ما انبعثت رائحة من الشقة، وجّه الي الاتهام، مشيرا الى قدمي ومتهما اياهما بانهما هما اساس.. اساس.. الرائحة الكريهة.. رائحة الاحتراق.. واذا ما لمته.. قام بإعلان محبته اللدود. في الصباح اطلعته، وليتني لم اطلعه، على قصة كتبتها عن صديقين يقيمان في شقة واحدة، ولا يتحمل احدهما الآخر، فما كان منه الا ان قال لي بلغة حافلة بالتهديد والوعيد. لو كنت مكانه لغادرت الشقة الى لا عودة. استفزني اقتراحه الجنوني هذا، فحاولت ان أنتهره. ان اقول له. لماذا لا يرحل هو؟ قصدت الآخر.. غير انني ابتلعت الكلام. وفضلت البقاء في بيت الصمت وبين جدرانه. اما في المساء فقد فاجأني بقصة كتبها، (تصوروا هو يريد ان يكون كاتبا ايضا)، عن صديقين لا يتحمل احدهما الآخر، صديقين يتبادلان اتهامات في مركزها رائحة الاحتراق في الظاهر، والرائحة الكريهة في الباطن. وعندما نبهته الى انه انما يلعب بالنار، ارسل ابتسامة ذات الف معنى، وهو يتشدق بالكلام:
هو: هل يوجد سبب وراء كتابتك هذه القصة؟
انا: لماذا كتبتها؟
هو: اردت التعبير عن امر في خاطري.
انا: هل تعتقد انه بإمكان كل انسان ان يكتب القصص؟ 
هو(بصلف): وهل تشك في هذا؟ كل الناس اصبحوا كتاب قصص هذه الفترة.
انغرس خنجر كلامه عميقا، عميقا، في صدر احلامي، واردت ان اساله عما اذا كان يعتقد ان ما اقوم به من كتابة القصص يغيظه، وبما انني كنت اعرف اجابته مسبقا وانه سيجدد استخفافه المبطن بكتابة القصص، فقد فضلت الصمت. في كل الاحوال كان ذلك الموقف سدّادة لزجاجة عمر من الصبر ومعايشة الضبع في قفص واحد. لقد تأكدت بما لا يقبل الشك، انه لا بُدّ لرحلة العذاب هذه ان تنتهي.. واضمرت امرا.. الشقة لم تعد تتسع لاثنين. 
رئيس لجنة العمارة
اشتكي لي امس ساكن شقة نمرة 3 من رائحة تنبعث من الشقة نمرة 7. لم اعبأ بشكواه هذه، سكان العمارة يكثرون من الشكوى، لهذا انا لا اعول على ما يقولونه ولا اصدقهم. ساكنا الشقة 7، رجلان فاضلان، احدهما رسام يحميه الله، والاخر كاتب قصص اسم الله... فما سبب انبعاث تلك الرائحة من شقتهما؟ ساكن الشقة نمرة 6 يقول ان الرائحة المنبعثة من هناك باتت همًّا يلاحقه ويلاحق ابناء اسرته ليل نهار، بل ان ساكن الشقة 5 غادر شقته ليقوم في فندق بعيد ريثما نجد حلا لمشكلة الرائحة الكريهة. لا اخفي انني انا ابتدأت اشعر بالاختناق كلما اقتربت من عمارتنا المحروسة. لهذا كان لا بد من ان اتوجه الى كل من اصادفه من سكان العمارة بالسؤال عن المرة الاخيرة التي رأى فيها ساكنيّ الشقة نمرة 7، او احدهما على الاقل. كل من سألته اخبرني انه لم ير احدًا من ساكني تلك الشقة منذ فترة ليست قصيرة. لم يكن امامي والحالة هذه الا ان اعقد اجتماعا للجنة العمارة، وقر راينا في نهاية الاجتماع، ان نتوجه الى الشرطة، لعلنا نجد عندها الحل لتلك الرائحة الخانقة، ما ان اتصلنا بالشرطة واخبرناها بالامر حتى اشتكت هذه من انها كانت تبحث عن سبب تلك الرائحة التي زكمت انوف رجالها ومستخدميها، ربما لهذا ما ان بادرنا للاتصال بها حتى امتلأت حارتنا بسيارات الشرطة والى جانبها سيارات الاطفاء وسيارات الاسعاف الاولي. تراكض افراد هذه المجموعات باتجاه الشقة نمرة 7، وكانوا، كما علمنا فيما بعد، كلما اقتربوا من تلك الشقة تفاقمت شدة تلك الرائحة. عندما وصلوا الى باب الشقة. لم يكن امهم سوى ان يضعوا الكمامات الواقية من الكيماوي على وجوههم، وان يخترقوا باب الشقة. ليس ليدركوا سر تلك الرائحة وانما لإخراجها من محبسها. وقد نقلت وسائل الاعلام المسائية عن متحدث باسم الشرطة قوله ان منظر جثتي الرسام والكاتب ساكني الشقة نمرة 7، كانت عندما دخلت الشرطة ومرافقوها من رجال الاطفاء والاسعاف الاولي، قد تحللت نهائيا وان الدود كان قد خرج من الجثتين، وتسلق الجدران.. واعتلى سقف الشقة.. مؤكدين ان عدم وجود متنفس في الشقة.. كان السبب نمرة واحد في.. كل ما حدث.


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

14- نهاية غول
قصة: ناجي ظاهر
ما ان غربت شمس عام 1948، ورحل من رحل من الاهالي الفلسطينيين وبقي من بقي، حتى استجد وضع حافل بالحكايات والاقاصيص،.. وبات مساحة خصبة للأقوال والاقاويل. وقد انتشرت في تلك الفترة قصة الرجل الغول المرعب قاطع الاذن اليمنى، وكان هذا كما تناقل الناس في تلك الفترة، قد تقدم الى سلطات الاحتلال المعنية، بطلب رخصة " جفت" انجليزي، لصيد الخنازير البرية، في الظاهر وللمواجهة اعداء له، طالما هددوه وتوعدوه بالقتل في ليلة معتمة لا قمر فيها، فما كان ممن تقدم لهم الا ان احالوه.. من مسؤول حكومي الى اخر، الى ان توقف في غرفة ضيقة قبالة محقق ذي ملامح قاسية، واستمع اليه بنوع من الرهبة يقول له: سنعطيك رخصة جفت انجليزي وسوف نفتح امامك المجال واسعا لصيد ما تود اصطياده من الخنازير البرية، شريطة ان تتعاون معنا، في انهاء ظاهرة المهربين والقضاء عليها. عندها تصور الغول نفسه يتقلد الجفت ذا الخرطوش الرش، على كتفه ويعتلي جيبا المانيا مصلوبا على بوزه خنوص صغير، فاعجب بنفسه، وتوجه من فوره للمحقق قبالته بنوع من تصعير الخد والصلف.. سائلا اياه عما اذا كان بإمكانه ان يتمادى في طلب كرمه فيزوده بجيب يرتاد به الجبال وينزل الوديان بحثا عن المهربين. ايقن المحقق المنكح انه امام متعاون حقيقي، وانه بإمكانه ان يعتمد عليه، فارسل نحوه نظرة غامضة، وهو يقول: وهو كذلك، فما كان من الغول الا ان سأله ليتأكد مما سمعته اذناه، هل انت محق بوعدك هذا؟ فرد المحقق بصلف اكبر: تعال غدا لتأخذ الجيب. احنا بنلعبش.
في صبيحة اليوم التالي المبكرة، وفد الغول الى مركز الشرطة في القشلة، وحاول ان يدخل ليأخذ الجيب الالماني الموعد، فما كان من حارس المركز الا ان رده مهددا اياه بإطلاق النار عليه، اذا ما تمادى وحاول الدخول بالقوة. ارتد الغول الى الوراء. وسوى منطقة استخرجت منها المناجذ عدة اكوام من التراب ونام عليها وهو يرسل انظاره المترقبة الى فروع شجرة الزنزلخت فوقه. استسلم الغول الى النوم، وحلم انه دخل الى مركز الشرطة ورأى الجيب ينتظره هناك، لكن ما ان اقترب منه ليضع يده عليه، حتى شعر بمحركه يدور بقوة، وبه ينطلق بعيدا.. كان ذاك كابوس، دفعه للنظر في ساعته ليلاحظ ان الوقت قد مضى وان الشمس قد تعالت. 
حمل الغول نفسه ودخل الى مركز الشرطة، وتوجه هذه المرة الى غرفة المحقق ذاته، ليفاجئه هذا مرحبا ومهللا ومخبرا اياه ان رخصة الجفت الانجليزي والجيب الالماني حاضران. افترشت الابتسامة وجه الغول، وقال للمحقق قبالته، ما المطلوب مني؟ كيف على ان اتصرف؟ فنفر به المحقق قائلا: عليك ان تلاحق المهربين في كل مكان وموقع، وان تقتلهم بلا رحمة. وطلب منه ان يأتي اليه بالأذن اليمنى لمن يقتله منهم ليتأكد من انه قتله. وزيادة في الاقناع اردف المحقق يقول: انني اطلب منك هذا الطلب الصعب لسبب بسيط هو انه يوجد هناك من هو اعلى مني.. ومن حقه ان يتأكد انك اديت واجبك على النحو المرجو والمنشود. 
بعد وقت قصير تمنطق الغول بالجفت الانجليزي، وركب الجيب الالماني، وانطلق باتجاه بيته. هناك استقبله اهل بيته بالبِشر والسرور، وتوافدوا واحدا وراء الآخر لتهنئته بما صارت اليه احواله من راحة ونعيم. ومع هذا لم ينم جيدا، وتصور نفسه يطلق النار على مهرب هرب منه، فيسقط هذا ارضا ليقترب منه ويطلق مرة اخرى وسط استغاثته ودموعه، الا انه يبادر لتنفيذ المهمة المنوطة به.. يستل السكين المشحوذ جيدا ويقتطع اذنه اليمنى. عندما هاله ما تصوره خاطب نفسه قائلا" كل شيء في البداية يبدو صعبا". 
وهكذا كان.. انطلق في اليوم التالي باتجاه الخط الحدودي، ولبد وراء صخرة كبيرة بانتظار صيده الاول.. ومضى الوقت دون ان يفد احد، وعندما اقترب المساء، اقنع نفسه انه لن يعثر على ما انتظره وترقب حضوره، وما ان تحرك في موقعه محاولا الانصراف، حتى احس بشبح يقترب من مكمنه مخترقا العتمة والاشجار.. فعاد وانكمش على نفسه. ما ان اقترب الشبح من مخبئه حتى صوّب جفته الى صدره واطلق، لينطلق الرصاص فيخترق صدر الجسم المقترب. تهاوى الشبح امامه صارخا" يما"، فاقترب منه، واطلق عليه مرة اخرى، بعدها استل سكينه الماضية، واقتطع اذنه اليمنى. ومضى في طريقه عائدا من حيث اتى ومتصورا ما سيناله من جوائز وهدايا سنية لقاء عمله البطولي.
تكرر في اليوم التالي ما وقع في اليوم الاول، اما في اليوم الثالث فقد اختلف الامر، فقد انتشر خبر قاطع الاذن اليمنى. الامر الذي جعل المهربين الفقراء يأخذون المزيد من الحيطة والحذر. عندها وجد الغول نفسه في مازق حقيقي، فمن اين يأتي بالأذان ليقدمها الى محققه؟.. وكان ان تفتق عقله المبدع الخلاق، عن فكرة ما لبث ان بادر الى تنفيذها. ارتدى ملابس مهرب فقير، وتوجه، بعد بحث وتنقيب، الى مهرب معروف، ليترافق هذا معه، في عملياته الخطرة، واتفق معه على ان يعطيه الربح الاكبر. المهرب فرح بعرض الغول، ومضى الاثنان باتجاه حي العرب. اشتريا ما ارادا تهريبه من سجائر وايشاربات، ومضيا عائدين عبر السهول الجبال والتلال. عندما تعب الاثنان استلقيا تحت شجرة قريبة من الحدود، ليرتاحا من وعثاء السفر، وعندما سمع الغول شخير المهرب. اقترب منه وغرس سكينه في قلبه، وعندما احس ان روحه قد غادرت جسمه، ادنى سكينه من اذنه اليمنى واقتطعها.
انتشر خبر مقتل هذا المهرب، فراح المهربون يحققون وينقبون الى ان توصلوا الى الحقيقة، الغول هو القاتل. والهدف هي اذن المهرب، والا اين ذهبت اذنه ومَن المستفيد منها؟ وكان ان اتخذ شيخ المهربين قرارا وقال بتصميم:" علينا ان نضع حدا لهذه المهزلة.. والا اكلنا الغول واحد تلو الاخر".
قرار شيخ المهربين، سرى سريان النار في الهشيم اليابس، الحاضر للاشتعال، وكان ان اخذوا ينتظرون ان يفد الغول الى احدهم لمرافقته الى حي العرب. وما ان خرج الغول من بيته متخفيا بزي مهرب، ودلّته حاسته الرهيبة المدربة على احد المهربين، حتى اقترب منه، وعقد معه صفقة، تقضي بان يترافق الاثنان في عملية تهريب كبيرة، يكون فيها نصيب المهرب اكبر. ابتسم المهرب وهو يستمع الى كلام الغول المتخفي، وقال له "تمام افندم". 
عملية التهريب جرت بدقة واحكام، بالضبط كما خطط لها الاثنان، وعندما تعبا في طريق عودتهما، اخذ الغول في التثاؤب، في محاولة منه لان يدفع مرافقه الى النوم، فاخذ هذا في التثاؤب، وافتعل النوم، بل انه راح يرسل شخيرا شديدا.. عندها فتح الغول عينيه، استل سكينه بسرعة وما ان رفعها ليغرسها في صدر مرافقه المهرب، حتى شعر بشيء يخترق اضلاعه.. وضع يده متحسسا هذا الشيء.. واندفع الدم متدفقا غزيرا من صدره.. غامت الدنيا في عيني الغول.. فبادره المهرب بطعنة اخرى.. واعتلاه.. موجها سكينه الى اذنه اليمنى بالضبط.. ومجتثا اياها من مكانها. وضع المهرب اذن الغول في فمه.. وفي منتصف الليل قذف بها قبالة مركز الشرطة.. ومضى مختفيا في ظلام الشارع.. والاشجار.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

 

 

15- عاشقان
قصة: ناجي ظاهر
مصادفة غريبة وغير متوقعة جمعتها به. لقد غاب في ثنايا الليالي كما غابت الكثير من اشياء الطفولة التائهة في بحر الحياة، وها هي الصدفة تجمع بينها وبينه، وفي بيته الصامت. خمسة وثلاثون عاما مرت على الفراق غير المقصود، وها هي تأتي برفقة صديقة لها لقضاء بعض الامور الملحة.. لتجد نفسها امامه.. قبالته ووجها لوجه. 
ارسلت سهاد اليه نظرة طفلة كبرت فجأة فبادلها النظرة، وانصرف عنها بسرعة ذكرتها به حينما كان يرسلها والداها اليه ليُدرّسها فتتحسن علاماتها المدرسية. أيامذاك كانت تغادر بيت اهلها الفقراء لمهجرين.. المستأجر، لتذهب اليه في غرفته الصغيرة المجاورة لبيتها، فيرحب بها ويأخذ بتدريسها بكل مودة واخلاص، ورغم ان عمرها لم يكن تجاوز العقد الواحد، الا ببضعة اشهر، فقد كانت تدرك بحاستها القوية، نظراته المولّهة بها تخترق كيانها لتتربع على عرش احلامها، يومذاك.. هو كان في حوالي الخامسة الثلاثين من عمره، كان اعزب ووحيدا يعيش في غرفته الوحيدة المستأجرة القريبة من بيت اهلها. وكثيرا ما ضبطته وهو يرسل نظرة اعجاب بها وبسمرتها اللافتة، غير انها كانت تفتعل عدم المعرفة، ضامة عدم الفهم الى التياسة في التعلم، في محاولة منها للتخلص من موقف قد ينتهي نهاية غير طيبة. مشاعره نحوها كانت واضحة لها تمام الوضوح، بل انها ما تزال تتذكر انه امتدحها امام اهلها، اكثر من مرة واوصاهم بان يديروا بالهم عليها فقد باتت صبية و"اغمض عيك وافتحهما لتراها وقد كبرت". توصيته هذه قالت لها يومها بصريح العبارة انه يتمنى لو انها كبرت ليرتبط بها، غير عابئ بفارق السن.. ايمانا منه بان الحب لا عمر له. ومضت الايام والشهور، ليأتي والدها ذات مساء حزين، ويطلب من امها ان تعد اغراض البيت لانهم سينتقلون الى بيت اخر.. وجاء اليوم التالي بتندر ليضعوا فيه اغراضهم البسيطة و.. ليرحلوا من بيتهم ذاك ليقيموا في بيت اخد بعيد، ولتنتهي علاقتهم به نهائيا، وكأنما هو كان حلما قصيرا وانتهى. عندما بلغت السابعة عشرة، جاء من يطلب يدها.. بسرعة وافق اهلها، لتنتقل الى بيت من سيصبح زوجها، ولتنجب هناك ابناء وبنات. غير ان صورته هو.. هو.. وليس سواها بقيت تداعب احلامها وكأنما هي ابنة الحياة الابدية. 
الآن، وهي في بيته، احتارت ماذا بإمكانها ان تفعل، فقد بادلها النظرة بالضبط كما فعل عندما كانت معه في غرفته تلك، ترى هل ما فعله.. ما هو الاعادة.. ام انه نسيها مع ما نسيه وطوته الايام؟ اذا كان هو قد نسي فإنها هي لم تنس.. وراحت تراقبه وهو يسكب القهوة في الفناجين العربية، سبحان الله هو يمسك الغلاية بنفس الطريقة الحذرة، ويسكب القهوة بنفس الطريقة التي لفتت نظرها.. برقتها وخلبت لبها.. بطلاوتها. انه يقدم القهوة الى ضيوفه، بنفس الطريقة الكريمة الطيبة الواعية للواجب العربي في اكرام الضيف. الله على تلك الايام.
ترسل نظرتها الى رفيقتها، تغتنم هذه الفرصة، لتقول لها انها مضطرة للانتقال الى بيت اخر" لن اتغيب كثيرا. انتظريني هنا" تقول لها فترد عليها بغير وعي منها. " سأنتظرك"، "ترى هل رتب لنا القدر هذا اللقاء؟ تخاطب نفسها. وهي تشيع مرافقتها خلال مضيها باتجاه باب البيت. تبقى هي ومضيفها القديم الجديد. تغرق الغرفة في الصمت. كل منهما، هما الاثنين، يسترق النظر الى الاخر، وكأنما هو يريد ان يكتشف شيئا ضاع مدة اكثر من حوالي العقدين من الزمن وها هو يعود، وكأنما الزمن لم يمض. 
يجلس الاثنان احدهما قبالة الآخر، ولا يفوهان بأية كلمة، يجلسان وكان على رؤوسهم الطير.. هي تتوجه اليه في محاولة منها لكسر حدة الصمت المخيم على الغرفة. "يبدو ان زوجتك ليست هنا" تقول له،" "انها في زيارة لأهلها.. اخذت الابناء معها"، يرد عليها، تعود في محاولة اخرى لمواصلة الحديث معه. تقول" تغيرت الدنيا كثيرا.. الاولاد في هذه الفترة غير ما كنا عليه"، يتجاهل تلميحها للأيام الخوالي البواقي، يرد عليها قائلا:" لدي خمسة ابناء. بسرعة كبرت سهاد. هي اليوم في العاشرة"، يخفق قلبها بشدة، هو لم ينسها كما خيل اليها، وها هو يخبرها بطريقته، انها ما زالت تعيش معه بالضبط كما هو عاش معها طوال تلك السنوات. تندفع سائلة اياه:" هل ستتأخر سهاد كثيرا؟"، "لا اعرف" يرد عليها وهو يرسل نظرة تائهة من نافذة بيته، "يا ريت اشوف سهاد" تردد، يبتسم:" هي تشبهك الى حد بعيد". تعود الى الوراء تطوي السنوات والعقود طيا، ترجع الى تلك الايام، تتصور ان اهلها بقوا في بيتهم ذاك، وانه انتظر سبعة اعوام فقط، لتعيش مشاعر كتمتها عن اهلها وعن كل الناس، وحتى عن نفسها. اه لو ان الماضي يعود.
يغمض كل منهما عينيه، ويتوه في عالمه، كأنما هو يريد ان يعرف ما الذي حدث فيما بعد، لقد بات الآن انهما لن يعودا الى الماضي، وان ذاك الزمان قد ضرب ما تلاه بيد من حديد. مشاعر المودة لا تموت، وانما هي تختبئ في داخلنا منتظرة اللحظة المناسبة لتعود وكأنما هي لم تول، انهما هما الاثنين، الآن في حيرة من امرهما، ما يربط بينهما لا يعدو كونه صورا من الماضي.. اه لو انها لم ترافق صديقتها الى هنا اه لو انها لم تره ولم يجمعها به مكان، اه لو ان ذلك الماضي لم يكن. الف آه وآه.. تلح عليها دون ان تجد اجابة شافية واحدة. 
يغيب الاثنان كل في تساؤلاته، يحاول كل منهما العودة الى الماضي، لكن عبثا، ها هما يعيشان لحظة قد تكون الاجمل في الحياة، لكنها لحظة نادرة تدمرها الاسئلة الحائرة. 
يسمع الآن صوتا قادما من باحة الدار، انه صوت مرافقتها، لقد عادت. تسمع صوتها يناديها:" سهاد.."، تنتصب واقفة على قدميها، ترسل نحوه نظرة وداع.. تراه قد بات شيخا مسنا.. في لحظة واحدة.. تجر قدميها باتجاه الباحة.. تعتذر لها مرافقتها" لقد تأخرت عليك قليلا"، تقول لها، لقد مر الوقت ثقيلا" ترد عليها سهاد، وعبثا تحاول مرافقتها معرفة السبب.. فقد دفنته سهاد في داخلها.. ومضت برفقة مرافقتها مبتعدة عن بيت الذكريات.. وكانت الاثنتان، خاصة سهاد، كلما ابتعدت بدت اصغر.. حتى تحولت الى نقطة تكاد لا ترى.. وغابت في الفضاء الممتد الرحب..

1-

جدعان الحارة
قصة: ناجي ظاهر
الحوت والقرش.. اسمان ترددا في حياتنا نحن ابناء الحارة الشرقية، وكثيرا ما كان موضوعا اثيرا لدينا، فطالما سهرنا الليالي نتناقل اخبارهما، وكان كل منا يصُف في جانب احدهما، بل انني اتذكر اننا كثيرا ما تعالقنا بالأيدي وكسّر بعضُنا بعضا، لولا تدخل من وقف جانبا مفضلا الامان والسلام من ابناء الحارة.. في فض الاشتباكات بيننا. مما اتذكره اننا انقسمنا ذات ليلة مقمرة الى فريقين، كل منها يدّعي ان احد الجدعين اقوى من الاخر، وانتهت الليلة بان حطّم بعضُنا بعضًا.. وكاد يستنجد بمن وقف في صفه وتغنى بأعماله العظام وشجاعته الخارقة.
بعدها انفض كل منا الى طريق، وعاد مفكرا فيما يمكنه ان يفعله من اجل معبوده البطل، وكان ان حمل كل منا، نحن رئيسي الفريقين، انا وصديقا لي، فكرةً ما فتئ ان طرحها في القعدة الحاراتية في المساء التالي، وكان مفادها انه يفترض فينا ان نتوجه، هو الى قرشه وانا الى حوتي، سائلين كلا منهما عمن هو الاقوى والاشجع بينهما. ما ان طرحت هذا السؤال على محبوبي الحوت، حتى ربّت على كتفي، انا الفتى الصغير قائلا انه لم يفكر في هذا الموضوع من قبل، وانه سيبلغني بما يمكن ان يتوصل اليه خلال يوم او بعض يوم. ما ان نطق بهذه الكلمات حتى ارتاحت اساريري، وتوجهت الى رئيس الفريق الآخر المنافس. وقفت امامه وقفة من يتحدى خصما قويا شرسا، واخبرته انني انتظر اجابة الحوت، وانه وعدني بان يقدم الي اجابته خلال فترة قصيرة. ضحك الفتى الواقف قبالتي.. بعدها انفجر في ضحك متواصل، ما اضطرني لأن اطلب منه ان يُطوّل روحَه وان يخبرني بما اضحكه كل ذاك الضحك، فما كان منه الا ان ركض في عدة اتجاهات، معبرا عن حيرته وقال لي، انه سمع من قرشه نفس ما سمعه مني، وانه ينتظر الاجابة بعد يوم او بعض يوم.
توجهنا، رئيس فريق القرش وانا رئيس فريق الحوت، في الموعد المحدد لنا مع شجاعينا العظيمين، وكان ان جرى بيننا الحديث التالي:
انا: هل توصلت الى اجابة.. من هو الاقوى بينكما انت والقرش؟
هو: وهل هذا سؤال؟ انا بالطبع الاقوى.
فكرت فيما يمكنني ان اقوله لفريق الحوت، فريقي، والقرش، فريق ابن حارتي وخصمي، وتوصلت بعد امعان في التفكير وسباحة مضنية في بحوره، الى ان اجابته هذه قد توقعني في حيرة اكبر من سابقتها، كونها لم تضف جديدا، فعدت اسأله:
-وكيف يمكنني ان أتأكد من انك انت الاقوى؟
عندها غرس الحوت عينيه في:
-هل تريدني ان اواجه القرش.
انطلق لساني رغما عني:
-وهل هناك حلٌّ آخر.. لمعرفة من الاقوى بينكما؟
خلافا لكل ما توقعته.. ربت الحوت على كتفي وهو يقول: 
-لا تخف.. في قول كلمة الحق.. صحيح انني معتز بقوتي وشجاعتي،، الا انني اخضع لكلمة الحق مهما كانت قاسية.. لا تخف يا ولد.
واضاف يقول: انت في حماية الحوت.
تشجعت اكثر فقلت له اختصارا للحديث والوقت:
-هل انت على استعداد لمنازلة ترينا أيًا الاقوى بينكما؟
ضحك الحوت حتى استلقى على ظهره:
-معك حق. حدّد موعدًا للمنازلة..
عندما عدنا، ابن حارتي رفيق القرش وانا- رفيق الحوت، الى جلستنا المسائية في اليوم التالي، اخبرني رئيس فريق القرش، انه اتفق مع قرشه على منازلة بين الجدعين، تُقام مساء يوم الجمعة القريب.. في مركز البلد، قرب الدوار العمومي وعلى مشهد من الناس.
التقينا في الموعد المُحدّد من مساء الجمعة، كان الجو متوترا مشحونا، وكل منا يتمعن فيمن يؤيده. وقف الحوت منتصب القامة ووقف قبالته القرش مثلما وقف هو، واخذ كل منهما يدفع الآخر بصدره الى الوراء، سائلا اياه: انت متأكد انك اقوى مني؟، اما نحن الوقفين حولهما من ابناء الحرة الشرقية، فقد كانت قلوبنا تدق على ايقاع حركة كل من محبوبينا، هم كانوا يرسلون النظرات الموّلهة السكرى في قرشهم ونحن كنا نرسل نظراتنا المتأكدة من قوة حوتنا وقدرته على ان يدحر القرش الواقف قبالته.
دفعة بالصدر من هذا الطرف واخرى من ذاك، والنتيجة معركة شرسة بين عملاقين وليس بين رجلين. الطريف اننا كنا نرى كلما اشتبكا اكبر واضخم في الجثة والوزن، لقد كبرا حتى اننا لم نعد نراهما، لقد تركزت عيوننا المنبهرة المُتحسّبة لكل حركة ونأمة، في اليد التي توجّه اللكمة الاشد والاعنف، وكنا كلما وجّه الحوتُ لكمةً الى القرش، نحبس انفاسنا بانتظار اللكمة التالية وبعدها الضربة القاضية، وعندما ابتدأنا في وضع انتصار الحوت في جيوبنا، اخذنا نصفق له مهللين مكبرين، وهو ما استفز مؤيدي القرش، فراحوا يشجعونه ويصفقون له، الامر الذي فعل فعله في استنهاض جرأة القرش واستثارة حميته، فتوقف عن ترنحه، وشرع بتوجيه اللكمة تلو الأخرى الى الحوت قبالته. 
عندما شعرنا ان تشجيع فريق القرش، ادى دورا مُهمّا في توجيه دفة الفوز، اخذنا نهلل ونكبر داعين الحوت الى توجيه اللكمات الى خصمه القرش، الغريب انه استجاب لنا وراح ينفخ جسده انتفاخة مارد خرج للتو من الف ليلة وليلة، فاستعاد عافيته وراح يكيل الضربات لخصمه بمكيال من قوة وشجاعة. 
عندما رأينا ان التشجيع يؤدي دوره الكبير هذا في التحفيز.. والتسديد اللكماتي، ارسلنا مَن يستدعي المزيد من اولاد الحارة، ممن فضلوا الوقوف جانبًا وعدم الانضمام الى هذا الفريق او ذاك، وعندما فهمنا انهم غير معنيين، وعدناهم بان نتقاسم معهم طعامنا وشرابنا خلال ثلاثة الايام التالية. عندها اخذ هؤلاء، ومعظمهم - اذا لم يكن كلهم من ابناء المهجرين الجدد، ابتدأت الكفّة تميل الى من يزداد مؤيدوه، فهي حينا تميل نحو الحوت وآخر نحو القرش، وجاءت اخيرًا.. المفاجأة غير المتوقعة..
عندما تساوى عدد المؤيدين المشجعين لكل من طرفي الصراع القتّال، كان كل من المتنازلين قد اوشك على السقوط واعلان الهزيمة. 
توقف الاثنان، للمفاجأة الصاعقة، توقفا عن القتال. نظرا كل في اتجاه، وبصقا معا علينا، ولحق كل منهما بفريقه مسددا اليه الضربة تلو الاخرى.. كانت تلك علقة غير متوقعة من جدعي البلد، وكثيرا ما قضينا الليالي متضاحين.. ومتذاكرين تفاصيل تلك العلقة.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2- دون جوان النصراوي
قصة: ناجي ظاهر

نشا وليد الخازندار في بيت دافئ، لاب رؤوف وام حنون، وعندما مات ابوه شابا في السبعينيات، تأثر كثيرا وطالما لاحت في عينيه دمعة حارة، كادت تحرق قلب امه، فأغدقت عليه من محبتها اكثر.. فاكثر، مما اشعره بأن الحياة لا تتوقف بفراق الوالد الحادب وانما هي قد تبدا. المهم كيف ننظر الى الحياة. وتمضي الايام غير عابئة بأية عثرة او عقبة قد تعترض انطلاقتها، بما فيها من حلو قليل ومر كثير، ليجد الخازندار نفسه وقد كبر وشب عن الطوق. لقد اصبح في غفلة منه في التاسعة عشرة من عمره، وعليه ان يُقدّم انجاز عمره، وعندما قرأ في صحيفة قديمة، ان همنجواي كتب روايته الاولى "الشمس ستشرق ايضا"، وهو في الثانية والعشرين.. مدفوعا بان كل ابناء جيله قد انتجوا اعمالهم الاولى، انكب على القراءة والكتابة، الامر الذي لفت نظر امه فسألته عن سبب اهتمامه الشديد ذاك، فرد عليها قائلا بنوع من الزهو: بدي ارفع راسك وراس البلد، مضيفا بكبرياء لفتت نظر امه: بدي ارفع راس الوطن. افترشت وجه امه ابتسامة، حاولت ان تخفيها، الا انه تمكن بألمحيته وفطنته الشعرية من رؤيتها، فازداد زهوا وثقة بالنفس... وانكب اكثر واكثر على الكتابة.
في الواحدة والعشرين ابتدأ اسمه يلمع في سماء الادب العربي في بلادنا، فراح اسوة بسواه من شعراء تلك الفترة، في تسويق نفسه، وكان ان سعى لإقامة امسية شعرية يشارك فيها آخرون من ابناء جيله، مخططا لأن يكون الاظهر والابرز فيها. في مسائها المحدد عُقدت الامسية في دار الثقافة، بعد ان تم التحضير لها بكل قوة، وابتدأ الجمهور في التوافد على الدار، فيما ابتدأ الشعراء الشباب باعتلاء المنصة والاستعداد لإنشاد ما اعدوه من اشعار، ومثلما هو مُرتب.. شرع الشعراء في انشاد اشعارهم متمايلين مترنمين، وكان الخازندار قد خطط ان يكون آخر من ينشد ما اعده من شعر، فوقف متمعنا الوجوه، مترويا متأنيا، كما ارشدته امه، وابتدأ بقراءة قصيدة، تعمّد ايضًا، الا تكون طويلة ومملة، كونه رتّب لها في نفسه ان تكون مسك الختام، لأمسية شعرية من العمر. 
وقف الخازندار على منصة الشعراء، وقفة المحب المزهو بنفسه وبما سيقوله، عدّل وضع نظارته الطبية مثبتا اياها في موقعها الصحيح. تمعن الجمهور، وشرع بقراءة ما اعده استظهارا.. وعن ظهر قلب، الامر الذي لفت اليه انظار حسناوات الامسية. اندمج الشاعر في قصيدته كما يفترض وزاد في اندماجه هذا، ان قصيدته حملت عنوانا ذا معنى ومغزى هو" دون جوان- العاشق الولهان"، وكان الشاعر الشاب، كلما توغّل في قراءته قصيدته، شعر بالأنظار تتوجه اليه اكثر.. فاكثر، وكان اكثر ما لفته من بين الجمهور صبية شعر، ومن مثله يشعر.. هو الشاعر الفذ..، فنسي القاعة ومن فيها وركز انظاره في تلك الصبية، مسترقا اياها بين الحين والآخر نحوها، ونحوها فقط، وكان كلما تقدّم في نصه الشعري، قرأ في عينها ما قرأه دون جوان في عيون جميلات زمانه، فانتابته نشوة من نوع غريب، لينسى نفسه ويعود لإنشاد قصيدته مجددا، الامر الذي الهب عيني تلك الفتاة ودفعه للتحليق في مرتفعات طالما حلم بها خلال قراءته مسرحية موليير، وبعدها اثناء كتابته قصيدته الحافلة بمشاعر المحبة، لشخصية احبها وتمنى لو انه يكون مثلها ويناله مثل ما نال صاحبها الدون في حياته، وبعدها في مماته من ذيوع شهرة ونبوه صيت.. في عالم العشق والغرام.
انتهت الامسية وانفضّ الجمهور منطلقا كل منهم في طريقه، وعندما شعر الخازندار ان امه تنتظره عند بوابة دار الثقافة، توجّه اليها بمنتهى الادب، قائلا.. انه سيمكث قليلا مع زملائه الشعراء، وسوف يلحق بها بعد لقائه بهم.. وتقييمهم لأمسيتهم تلك. 
ما ان انصرفت امه حتى وجد نفسه وجها لوجه مع تلك الفاتنة المفتونة، تقدم كل منهما هما الاثنين من الآخر، وارسل هو نظرة حالمة نحو القمر المتألق في كبد الظلام، فيما تبعته هي ناظرة الى القمر ذاته. انفعل الخازندار بالفتاة الواقفة قريبا منه، وامسك بفرع شجرة قريبة منه معبرا عن رضاه من كل ما حصل ويحصل. تعمد الشاعر مواصلة الموقف المؤثر، تاركا لمشاعره ان تُعبّر عما احس به نحو فاتنته تلك، ومنتظرا ان تبدأ الكلام. لم يطل انتظاره فقد دنت منه اكثر واكثر ناسية نفسها، وهمست في اذنه تقريبا.. قائلة: كنت رائعًا. ما ان سمع الشاعر الشاب هذه الكلمات حتى كاد يطير منطلقا باتجاه القمر في سمائه. عندها التقت العينان بالعينين، وواصلت الكيمياء المتصاعدة بينهما في ارتفاع منسوبها، حتى فاض الكيل بالشاعر فنطق بما شعر به دون اي تردد او محذور، وهمس لها بصوت اراد الا يسمعه احد في العالم سواه: كم انت جميلة. واندفعت هي.. لتقول له ما شعرت به، غير حاسبة اي حساب، فهمست في اذنه: كنت رائعا.. انت دون جوان.
تبادل الاثنان بعد قليل، وفي الواقع بعد كثير من الوقت، كل ما يحتاج اليه عاشقان مبتدئان، من عناوين وارقام هواتف، وانصرف كل منهما في طريقه.. هي كما تأكد له هو الشاعر الحساس، كانت تفكر فيه، اما هو فقد كان يفكر في الخطوة التالية، ليقترب منها اكثر فاكثر.. مواصلة لأولى غزواته الغرامية. عندما وصل الى بيته ودخل الى غرفته، لحقت به امه الى هناك، غير انه طلب منها لأول مرة في حياته ان تتركه ليجلس وحيدا. احترمت الام ارادة ابنها الشاعر الشاب، بعد تألقه الشعري الاول، مفسحة له المجال للبدء في حياته الشعرية الجديدة. وتركته ينغمس فيها من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه. 
في الايام التالية، تعمّد الشاعر الا يتصل بفاتنته، تاركًا لها ان تؤمن له.. وان تثق به، بالضبط كما كان دون جوان يفعل مع عشيقاته المتسلسلات. بعد اقل من يومين اتته البشارة، فقد غمزت صنارته، لتستخرج سمكة فاتنة، قد تكون الاكثر فاتنة في الناصرة ومنطقتها، سيمرر يديه على طيفها بكل رقة وحنو، رقة تليق بشاعر عالمه عامر بالكلمات المسكرة المدوخة. مثلما هو متوقع تعمد الشاعر اللقاء بفاتنته، في مكان عام، ثقة منه انه لا يرتكب خطأ، وشرب الاثنان معا قهوتهما العصملية ذات النكهة المحببة. وأخذا في تبادل الكلمات الدون جوانية، وكان الشاعر قد كتب بخطه الانيق الجميل، في دفتر صغير وضعه في جيب معطفه، فوق قلبه بالضبط، كلمات وجملا اشتهر بها دون جوان الاصلي، لذا كان بإمكانه، كلما نسي ما يمكنه ان يقوله لفاتنته، يسترق نظرة عجلى الى دفتره ذاك، ويستل من احدى صفحاته كلمة او جملة تُسّير له الحديث المعبر الطلي، وتُسهّل عليه اللقاء بفاتنته، وغاب الاثنان عن الوجدان، منشغلين بما يرنوان اليه ويتوقعانه..، هو كان منشغلا بكيفية الوصول اليها اعمق فاعمق.. دون اي التزام، وهي كانت تُفكر بالوصول اليه والحصول على كل ضمان ممكن.. عندما تمعنت بشاعرها جيدا، ابتدأت بالتخطيط ولم تكتف به.. وانما تجاوزته الى التنفيذ. 
التقى الاثنان مرتين. لتخبره في الثالثة ان صديقة لها وشت بها وبلقاءاتها به لأهلها، فقامت قائمتهم، وقالت له وهي تنتحب: انهم شرعوا في التهديد والوعيد، وزادت في حُقنة التخويف طالبة منه ان يكون حذرا في تحركاته. مُلمّحة الى انها خائفة عليه، لأنه قد يتعرض في اية لحظة لاعتداء من احد ابناء عائلتها. انتابت دون جوان النصرواي حالة من الهلع، وقف في مركزه توقف مشروعه الشعري في حالة مقتله لا سمح الله. فانتفض واقفا مثلا ديك بلله القطر، واندفع الى بيته ليخبر امه المُحبة الحنون بما وقع فيه من ورطة.. وعندما سالته امه عن الحل، فقال لها دون اي اقتناع وبأسف دون جواني قاتل: الزواج.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

3- الزوجة العبرية
قصة: ناجي ظاهر
الاول من ايار 1976، بات منذ زمن بعيد تاريخا لا ينسى ولا يمكن نسيانه في التاريخ الشخصي للفنان التشكيلي، شايف العايف، ابن مدينة الناصرة. ففي هذا التاريخ ابتدأت مصيبة حياته التي ستقضي عليه وعلى حلمه رويدا رويدا، علما انه اعتقد في البداية انها انفراجه حياته الكبرى.. وبابها الاول المفضي الى جنة رضوان. 
الحركة تدب في شارع بولس بولس السادس الرئيسي، في المدينة، الاعلام الحمراء ترفرف على عصيها المستقرة على اكتاف الشباب والبنات. اليوم هو بوم العمال العالمي، والناس تتوافد الى الناصرة، عاصمة الجماهير العربية في البلاد، من بلداتها ومدنها المختلفة، من عرابة عكا وحيفا وغيرها، بعد قليل ستنطلق التظاهرة العمالية المظفرة.. الكل يتقد فكرا ويلتهب حماسا. 
تنطلق المسيرة، مخترقة الشارع الرئيسي، مسددة وجهتها نحو منصة الخطابة في بيت الصداقة القريب من عين العذراء، تلتقي عيناهما هو شايف العايف بعينيها، هي تلك الصبية الجميلة المليانة الملظلظة المربربة، لقاء العينين يتحول من الصدفة الى القصد، كل منهما، هما الاثنين، يفاجئ الآخر بنظرة حافلة بالرغبة، لتلتقي بنفسي العينين. لقاء العيون يتكرر وتبدا الاحلام بالانطلاق الى اماكن مختلفة، اماكن من عوالم اخرى، مبهرة وساحرة، العايف يشعر انه عثر على بغيته، عروس المتقبل، دون ان يدور لسانه مع لسانها، يتصورها جسدا رائعا، حتى "روبنز" عجز عن رسم مثله، من المؤكد ان هذه الصبية ستكون ذات تأثير في حياته فإما تكون "موديله"، الذي حلم برسمه، واما تكون زوجته وام اولاده. وخطرت له فكرة تتوسط هاتين الامرين، " اما ان تكون الاثنين... الموديل والزوجة"، قال العايف لنفسه وهو يرسل ابتسامة ذات الف معنى ومعنى نحو فاتنته المنطلقة في المسيرة.
تنتهي المسيرة في بيت الصداقة، تتوقف هناك، يهرع الاثنان.. كل نحو الاخر، تتواصل النظرات، الا انها تتقدم نحوه، حد الالتصاق به غير عابئة بأحد:
-الست الفنان شايف العايف؟ تساله.
-بلى.. انا هو.. يرد عليها مرفقا رده بابتسامة ومضيفا: 
-لكن من اين تعرفينني؟ 
تبتعد عنه قليلا:
-ولو؟ وهل يخفى القمر.. اته نمتسى بدميون شيلي( انت موجود في خيالي).. كل الوقت رسوماتك امامي. اته متسوي (انت موجود) في وسائل الاعلام بشكل كبير. 
يجتاح الفرح الغامر الاثنين، يدور بينهما حديث من وجد ضالته بعد سنوات من البحث، يبدا حديث بينهما.. لا ينتهي ولا يريد. احدهما لا يحقق مع الاخر، وانما هو يتركه يتدفق شوقا وكلاما. هما لا يفترقان الا بعد ان يتعرف احدهما على الاخر جيدا، يتبادلان العناوين وارقام التلفونات. اهم ما عرفه كل منهما هو انهما متقاربان في العمر، في اواسط العشرينيات من عمريهما، وانها هي من سكان عكا وتقيم مع اهلها في بيت هادئ على شاطئ البحر. 
في كانون الثاني من العام التالي 1977، تكون طبخة ارتباط كل منهما بالآخر قد نضجت على نار هادئة، ويختاران كانون الاول شهر البرد الصارم القاصم، موعدا لارتباطهما بالرباط المقدس، اختيارهما هذا الشهر، لم يكن مصادفة وانما تعمّدا، فقد عافا برد الشتاءات الماضية من حياتيهما، وآن لهما ان يرتاحا.
الامور تمضي كما كان مخططا لها بين الاثنين، بالضبط ودون اي عائق، وتنتقل هي الى بيته القائم في اعماق البلدة القديمة، ليعيشا معا، وليكتشف ان ما بدا مزحة في هذا اللقاء او ذاك انما هو طبيعة لا يمكن تغييرها كما اعتقد الشايف، فهي تنطق خلال حديثها، كما تأكد مائة في المائة، بعد زواجه منها، انها تكرس الكلمة الثالثة لكل جملة تفوه بها تقريبا لكلمة عبرية، في فترة الخطوبة لم يكن يفكر في هذا، كما انه حاول ان يتجاهله بعد زواجه منها، الا ان البعض من اهله واصدقائه لفتوا نظره، الى كثرة الكلمات العبرية في احاديث زوجته العربية، في البداية لم يهتم لهذا الا انه ما لبث وان اعلن لها بصوت منخفض، اليه، فما كان منها الا ان اخبرته ان هذه عادة اكتسبتها من كونها عربية تعيش في مجتمع.. وحي يهودي. تقبل كلماتها بهدوء، متجاوزا عن ملاحظات اخرين. ومتقافزا حولها مقترحا عليها ان يقوم برسمها. 
جلست قبالته وشرع في رسمها مدة يوم كامل، تلاه يوم وآخر، فعافت جلستها تلك، وتوجهت اليه نافرة فيه:
-عد متاي اني تسريخة لسبول كول زه؟(حتى متى علي ان اصبر على هذا؟)
فربت على كتفها راجيا اياها:
-ترجعي اهوفتي.. اني كمعاط جمرتي.(اهدئي حبيبتي.. انهيت تقريبا).
عندها دنت من اللوحة امامه، وتمعنت فيها كانت المرأة في اللوحة جميلة جدا، الا انها لم تكن هي، فانتهرته قائلة:
-مبين انت براسك ايشه اخرت.(امراة اخرى).
وقبل ان يرد عليها قالت له بتدلل:
-انت لا تحبني.. شكران.(كذاب).
انتهت تلك اللحظة الا ان هواجسه الغنية الفوارة، اخذته بعيدا مُشرّقة مغربة، متنقلة بين عكاها وناصرته، وفكر طوال الليل فيما قالته له، متهمة اياه بانه لا يحبها وكذاب ايضا، فخطر في باله انها قد تخونه باحثة عمن يحبها، فجن جنونه، ولم ينم في تلك الليلة الا بعد ان اتخذ قرارا لا رجعة فيه.. مهما كلفه الامر. 
في السنوات العشر التالية كان قد نفذ كل ما فكر فيه، تنازل عن حلمه في الرسم، وفي رسمها تحديدا، واكتفى برسومات عادية تثبت وجوده في عالم الفن، وهو يعرف اكثر من غيره انها لا يمكن ان تحقق له حلما في الدخول الى سجلات الخالدين، لقد اكتفى بصفة فنان.. مقنعا نفسه بان هذه البلاد عقيمة ولا تنجب فنانا حقيقيا، وقائلا لها انه اذا كان سيبدع شيئا حقيقيا فانه لا بد له ان يقوم به ويقدمه الى العالم ان عاجلا وان اجلا. اما فيما يتعلق بزوجته الفاتنة المليانة المظلظة المربربة، فقد نفذ ما قرره ايضا، فقد ولدت له كل سنة ابنة، وقد عزز اصراره على تنفيذ إشغال زوجته بالإنجاب انها لم تنجب ولدا.. يواصل حلمه الفني. 
بعد انجاب زوجته ابنتهما العاشرة، بقليل، توقفت واضعة يديها على خصرها ومنتهرة اياه:
- داي(كفى) شايف العايف.. اني لو يخولة لسفول يوتر. ( لا يمكنني الصبر اكثر).
عام 2006 تزوجت ابنته الاخيرة، الصغيرة، وكان ان وجدت بناته سوقا قويا لدى شبان الناصرة، فقد كن فاتنات يشبهن امهن، بل انهن ورثن عنها كل شيء، حتى خلط العربية بالعبرية، وقد ادخل هذا الخلط ازواجهن بنوع من البلبلة، جراء ملاحظات الاهل والاصدقاء، لتبتدئ المعارك فيما بينهم، وبما ان بنات شايف العايف، لم يكن وحيدات في مواجهتهن لأزواجهن من رافضي ادخال الكلمات العبرية بكثرة الى عربيتهن، فقد انتهى كل من خلافاتهن الزوجية.. واحدا يتبع الاخر، حتى طلقن كلهن، وعدن واحدة وراء الاخرى الى بيت والديها في اعماق البلدة القديمة.
البقية باتت واضحة فقد تحمل الفنان شايف العايف زوجته العبرية العكية.. اما ان يتحمل الى جانبها عشر مطلقات يملان فضاءه بالكلمات العبرية، فان هذا كثير.. ومن الصعب تحمله.. بل ربما من المستحيل.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

4- المتغرب الايرلندي
قصة: ناجي ظاهر
عاش خياّم اللهواني ردحا مديدا من حياته، واكاد اقول حتى.. مماته، مع انه حي يرزق، عاش حياته معزولا وحيدا، وكان ما ان يخرج من وحدته حتى يعود اليها مضطرا مُكرها، وقد قضى جُلّ حياته بعيدا عن الناس وقريبا منهم في الان، فهو ما ان يقترب منهم حتى يأتي مُنغّص، لا يدري من اين، ليعكر عليه اجواء خروجه من امواه وحدته الفاتكة القاتلة، وقد علّمت التجارب اللهواني على العديد من الطرائق للخروج من وحدته، منها.. ما ان كان يُعرّفه احدُهم على صديق له، حتى يأخذ في التقرب اليه، متجاوزا من عرّفه عليه، ومحاولا بناء علاقة خاصة به، الامر الذي كان يُغضب الطرفين، صديقه وصديق صديقه.. فينفضان عنه، بل انه بالغ ذات يوم في غيه، فما ان عرّفه صديق صحفي على زميل.. عامل له في الصحيفة، حتى نزل عليه بأشواك كلامه الحادة.. اعتقادا منه ان ما يقوم به انما يُقرّبه منه!! وكان ان رد عليه هذا الصديق بعنف وطرده من مكتبه شر طردة.. واصفا اياه بالأفعى الناكرة للجميل، وقائلا له: انك لم تحفظ الود لمن عرّفك عليّ.. فكيف تطلب مني ان اتصادق معك.. واضعك في عبي. 
بقي اللهواني يتعرف على آخرين من خلال اناس اخرين، بينهم اقارب له، حتى بلغ الثلاثين من عمره، فعاف حياته ليغادرها الى الغرب، وليستقر به المقام في مدينة دبلن الايرلندية، منضما ولاحقا باخ له، استقر به المقام فيها، وارتبط بامرأة ايرلندي. اصطحبه اخوه فور نزوله من الطائرة الى بيته ليعرف زوجته به، وما ان انقضى يومان حتى سألت صاحبة البيت زوجها الى متى سيبقى اخوك عندنا؟، فهم اخوه.. ان زوجته ضاقت ذرعا بأخيه، فاقترح عليه ان ينزل عند صديق له يعيش وحيدا في شقة بعيدة عن مركز المدينة، ريثما يعثر على فرصة متاحة للبقاء في تلك البلاد. 
تقبل خيام الاقتراح، وانتقل للإقامة مع صديق اخيه، ولم يمض اكثر من يوم ونصف اليوم حتى جاءت النتيجة القاسية، قال له صاحب الشقة بصريح العبارة انه لا يمكنه استضافته للابد، عندها خرج اللهواني، كما خرج في اكثر من لحظة من لحظات حياته، هائمًا على وجهه، وجلس في محطة القطار عاضًا على شفاف الندم، لكن كما ارسل له الله من يُخلّصه في اللحظة الاخيرة من كل وقعة جديدة، لم يخذله هذه المرة، فقد عَلِمَ اخوه بما صارت اليه اموره، فبحث عنه طوال ساعات، حتى عثر عليه منكمشا في محطة القطار، وفي عينه دمعة. 
تقدم منه اخوه وفي عينيه رأفه واعتذار وربت على كتفه قائلا له، انه عثر اخيرًا على الحل الملائم لإقامته الدائمة في دبلن، وامسكه من يده جارا اياه، الى مقهى يقوم في اعماق المدينة، وهناك قدمه الى فاتنة ايرلندية، قائلا لها: اعرّفك على اخي. ارسلت الايرلندية نظرة الى اللهواني، وهزّت رأسها علامة الموافقة، ما رسم ابتسامة على جبين اللهوني، فقد فهم بحاسته المُدرّبة على الوحدة، المتحسبة لها دائما وابدا، انه عثر على المرأة التي تُمكّنه من الحصول على تصريح اقامة دائم في تلك البلاد، وعلى بيت دافئ يشرب فيه الكباتشينو ويُمدّد رجليه فيه وعلى كنباته باسترخاء، وبينما هو يتخيل نفسه وقد عثر على رفيقة، زوجة وبيت دافئ، كانت تلك الايرلندية، ترسل نحوه نظرة مُعجبة بملامحه الشرقية وشعره الليلي الاسود، وتأكدت من جسمه الممتلئ، انه سيخفف عنها متاعب الحياة، وسوف يكون معينا لها على مصاعبها ومشاقها.
في مساء ذلك اليوم، دخل اللهواني واخوه وزوجته الجديدة الى شقتها، وبعد نحو نصف الساعة، استأذن الاخ في المغادرة الى بيته، مُخليًا الفرصة لأخيه ان يعب من المياه الايرلندية ما شاء وما رغب، وهكذا كان، فما ان اغلق الاخ باب الشقة مُوليًا ومختفيًا في فضاء الشارع المحاذي، كما ظهر للزوجين المتعانقين من نافذة شقتهما، حتى التصق الزوجان التصاقة غريق عثر بعد عناء وشقاء، على خشبة الخلاص المنشودة.
شهدت الايام التالية ازدهارا لم تشهد مثله حياة اللهواني خلال سنوات عمره الثلاثين الماضية، وربما حياة زوجته الايرلندية ايضا، فقد كان كل منهما يحلم بالسكينة والاستقرار، وها هو الله قد يسرهما لهما، بأيسر السبل، الزوجة فرحت بزوجها المشتاق لجسد امرأة، والزوج فرح لأنه استقر هناك في دبلن، بعيدا عن الشرق ووحدته.. بل وقرفه فيه.. ما عدا هذا، تبين للزوجة انها اخطأت نوعا ما في حساباتها، فقد اكتشفت خلال الايام التالية ان زوجها اللهواني انما سيعيش على حسابها، فتوجهت اليه طالبة منه بكل ادب، ان يخرج للبحث عن عمل، فالمصروفات كثيرة.. ويد واحدة لا يمكنها تعيل اثنتين. 
خرج اللهواني من شقة زوجته حائرًا في ماذا يمكنه ان يفعل في تلك البلاد الغريبة عنه، وللحق نقول انه حاول ان يدخل الى مطعم وبعده فندق ليسأل عن عمل، إلا انه تهيّب ولم يفعل، الامر الذي دفعه للاتصال بأخيه طالبًا منه المساعدة، غير ان اخاه كان قد اغلق تلفونه، فعاد الى زوجته وعلى وجهه اكثر من علامة ضيق. سألته زوجتُه عن سبب ضيقه ذاك، لتواجه بصمت شرقي لا تعرفه، الامر الذي دفعها لإعادة السؤال. حين شعر اللهوني بنبرتها الغاضبة قليلا، خشي ان يصيبه ما اصابه في كل مكان وزمان حلّ فيهما، فأخبرها انه لا يعرف كيف يمكنه العثور على عمل، في مدينة كبيرة مثل دبلن، ما ان سمعت الزوجة المستريبة كلمات زوجها هذه، حتى افترشت وجهها ابتسامة واسعة، وهمست في اذنه الحبيبة قائلة له: ولا يهمك. 
في اليوم التالي كان اللهواني يعمل نادلا في مطعم ضخم فاره، ويشعر بثقة لم يشعر بمثلها طوال ثلاثين عاما الماضية، فقد بعث له الله بعد صبر جميل زوجة جميلا وعملا يقيه شر الوحدة والسؤال. 
انغمس اللهواني في عمله ناسيا ذاته القديمة، لكنه عندما تذكرها وعادت اليه اطيافها العتيقة، حتى افتعل خلافا كما فعل في حالات اخرى مشابهة مع صاحب المطعم، ليجد نفسه بعدها ينطلق باتجاه شقته وزوجته، اما شقته فقد فتح بابها بالمفتاح الخاص به، واما زوجته فقد اضطر حتى عودتها من عملها في المساء. بعد دخول الزوجة الى شقتها بوقت قصير لاحظت ان زوجها يعيش حالة من الحيرة والارتباك، ولم يمض وقت طويل على حديث الزوجين، حتى اقبلت الزوجة على لهوانيها ضامة اياه الى صدرها الطري، ومربتة على ظهره وهي تقول له: ولا يهمك.
بعد يومين، وجّهت الزوجةُ رجلَها الى عمله الجديد نادلا في قاعة للأفراح، فطار اليها مندفعا باحتضان زوجته الليلي له، واندمج بسرعة كسول مُحبٍ في عمله، ليعافه بعد فترة قصيرة وليتكرر شجاره مع مدير القاعة، ولتأتي النتيجة المحتّمة مغادرة القاعة بأسف.
قضى اللهواني على هذه الحالة مُدة سنوات، انجبت فيها زوجته الايرلندية ابنة مثل القمر، ففرح بها الزوجان، ونسيا مشاكلهما الصغيرة مع وحدة اللهواني وبطالته المزمنة، وعجزه عن التأقلم مع آخرين ممن يتعرف عليهم بهذه الطريقة او تلك، غير ان ما بدا في تلك الاثناء ان فرحة الزوجين لم تدم طويلا، فقد نفرت به زوجته عندما لاحظت ان دمه لا يتحرك، وانه عثر على طريقة مستحدثة، لكن ليست حديثة لمشكلته مع التأقلم والعمل. كان لا بد لها من وضع حد لما عانت منه طوال سنوات زوجها، فقامت بطرده من بيتها شرّ طردة، وهي تصرخ به انها اعطته كل ما بإمكانها اعطاؤها اياه من فرص، وان قدرتها الايرلندية الجبارة.. قد نفذت.
عندها تأكد خيام اللهواني، من ان عقد زواجه قد نفذت مفعوليته، وانه لا بد لها من العودة الى بلاده، شجّعه على هذا ان عددا من اهله ومعارفه، اخبروه انهم اشتاقوا إليه. هكذا عاد اللهواني الى البلاد، وكان ان دعاه معرفةٌ له الى شرب فنجان قهوة في " اروما"، وما ان تناول كلٌ منهما، هما الداعي وضيفه فنجان قهوته، حتى شرع اللهواني بالتحدث عن مكوثه مدة سنوات في ايرلندا، وهو ما شجّع داعيه على الاهتمام به وبما حدثه عنه، فدعاه مرة واخرى... الامر الذي مكن اللهواني من العثور على كلمة السر التي بحث عنها طوال سنوات عمره لعبور ابواب قلوب الآخرين وهي: كنت في اوروبا، غير ان فرح اللهواني لم يدم طويلا.. فعادت حليمة الى عادتها القديمة.. مثقلة هذه المرة بحمل رزين.. من الذكريات.

ראש הטופס


5- جبل الاسف

قصة: ناجي ظاهر
جرى لقائي الاول به في بيته القائم فوق الجبل تحت الاشجار، كنت يومها في زيارة لصديقي، اخيه الاصغر، وبما ان اخاه كان مسافرا، كان لا بد لي من الجلوس اليه ومشاركته شرب فنجان قهوة العربية الاصيلة، كما تقتتقاليد. بسرعة كبيرة تم التعارف بيننا، في البداية جرى الحديث عن الربيع الاخضر، بعده انتقل بمبادرة منه، لا اعرف كيف للحديث عن الخريف، وعبثا حاولت ان احدثه عن الربيع، فقد كان يمتلك قدرة هائلة على جرّي الى ما يحب من حديث خريفي اصفر، واعترف انه جرّني الى خريفه، فاقمت معه والى جانبه فيه طوال تلك القعدة، وقد كان بإمكاني ان انصرف عنه بسهولة.. لما فاض به من افكار سلبية من شانها ان تدمر جبلا راسيا.. وليس كاتبا مبتدئا مثلي فقط، غير ان حبي لارتياد مجاهل النفس الانسانية دائمة الغموض شدني اليه، وجذبني الى اقراص ابتسامته الدافئة الحنونة. هكذا بإمكاني القول ان لقائي الاول به كان مصادفة، امكنني الانصراف عنها ومغادرتها الى لا رجعة، الا ان لقائي الثاني به كان عمدا وقصدا وحبا في المغامرة، التي يحتاج اليها كل انسان مبدع وعاقل، فكيف اذا كان هذا الانسان كاتبا مبتدئا.. من قرية مهجرة وتضيق باحلامه ربوع بلاده؟ 
في الفترة التالية لعلاقتي به، لاحظت انه مجبول من طينة غريبة، فيها كل ما تريده وترغب فيه النفس وعكسه، فهو طيب وشرير في الآن وهو عازف عن النساء زاهد فيهن وفي الان ذاته مقبل مجنون بهن!! اما بالنسبة لي فقد اكتشفت انه عاشق متيم بي وكاره رهيب لي في الان ذاته، بل انني كثيرا ما القيت القبض عليه خلال محاولته سرقة بعض من احلامي.. واصدقائي المقربين، الا انني سامحته لإيقاني انه انسان غير مُضرّ، وان كل ما يفعله ويقوم به انما يدخل نفسه فيه دون ارادة منه، ورغبة في اثبات الذات في عالم.. اعرف اكثر من سواي انه يسحق اكبر ذات اذا امكنه، كما سحق العملاق جولييت الجبار نملة.. تائهة عاشت في جواره. 
لم يكن صديقي هذا يحب العمل، وكان من الصعب واكاد ان اقول من المستحيل عليه، ان يتواجد في مكان واحد اكثر من ساعتين، بعدهما كان يبدأ في الغليان، الى ان يخرج منه- من المكان- كما يخرج العريس من بيته، وقد وجد بما اتصف به من حيلة مُضمرة وخبث موارى، ان يعثر طوال الوقت على من يعيله ويقدم اليه كل ما نشده وطلبه على طبق من صبر وتضحية. وحدث بعد معرفتي به ان قمت بنشر عدد من القصص، فاتصلت بي احدى القارئات واقترحت علي ان ازورها في قصرها الفاره، القائم في اعماق البلدة القديمة من مدينتي الاثرية التاريخية الحضارية الناصرة. خلال زيارتي لها، فهمت انني مهجر ومعتر في الآن ذاته، ولا اجد المكان الملائم لمواصلة كتابة القصص الحبيبة.. العزيزة على قلبي وحياتي. عندها ارسلت نظرة واسعة نحوي، وارفقتها باقتراح نادر، اعتقد ان جبران خليل جبران هو الوحيد الذي حظي بمثله في ادبنا العربي من بطلته الاجنبية ماري هاسكل. اقترحت عليّ تلك الفاضلة ان اقيم في احدى غرف قصرها وان اتفرغ لكتابة القصص، وهي ستتكفل بمقامي ومعاشي.. فرحت بالاقتراح، وشرعت في الكتابة مثل مجنون عثر على عقله فجأة.. وعلى غير توقع. اعترف هنا ان ما حظينا به، انا وقصصي، من اهتمام لفت انظار القراء في بلادي وفي عالمي العربي ايضا، انما كان بفضل تلك الفاضلة اطال الله في عمرها وكثّر من امثالها. 
مثلما يحدث عادة في الحياة.. والقصص ايضا، ما ان نبه اسمي حتى اتصل بي صديقي اياه، وتحدث عما قمت بنشره من قصص في الفترة الاخيرة، والجِمال تشيل، وكان من الطبيعي والذوق السليم، ان ادعوه لزيارتي حيث اقضي جل وقتي. لم تمض سوى دقائق حتى شعرت بطرقة قوية على باب غرفتي، هرعت الى الباب وفتحته برقة كاتب قصص.. كان هو يرسل ابتسامة نحوي، والى جانبه السيدة صاحبة القصر.. أما هو فقد دخل غرفة الكتابة وأما هي فقد استأذنت لإعداد القهوة العربية الاصيلة.. احتراما وتقديرا لضيفنا العزيز. 
بسرعة متوقعة اتخذ مجلسه قبالتي، وراح يرسل إليّ نظرات غامضة فسرت نفسها بنفسها بعد وقت قصير من دخوله الغرفة. في البداية اجرى تحقيقا موسعا معي عن العز الغامر المحيط بي، فأجبته بمحبة صديق، بعدها تحول الى الحديث عما نشرته من قصص منذ اتيت الى تلك الغرفة في ذلك القصر، ولا اعرف كيف زحف كعادته قالبا لي ظهر المجن، وبدلا ان يواصل مديحه لما كتبته وانتجه في اعماق القصر، راح يكيل لي النقد ويصف كتاباتي بانها نمطية، وبانني يجب ان اخرج الى افاق ارحب من العالم، لأكتب عن تجارب اوسع وارحب. اعترف ان انتقاداته هذه لم تكن الاولى، فقد سبق وطرحها في لقاءات اخرى ماضية وسبق لي واجبت عنها بان الانسان الكاتب المبدع قد يرى الله في اصغر الامكنة واضيقها!! 
دخلت علينا، في تلك الاثناء، صاحبة القصر، وبيدها صينية وعليها غلاية قهوة والى جانبها ثلاثة كؤوس، وضعت الصينية على الطاولة امامنا، ولا اعرف ما الذي دفعني لان اطلعها على انتقادات صديقي لي..، ما ان سمعت صديقتي ما قلته لها، حتى اشرأبت برأسها، وتوجهت الى صديقي ذاك مثل لبؤة تعرض شبلها لخطر مُحدق، ونفرت به قائلة ما مفاده ان هذا الرجل، واشارت الى، يخصني، ومضيفة انني سأقوم بسحق كل من يتعرض له او يُعرّض بكتابته، وانهت قولها الغاضب بقولها: يكفي انني انا اعرف قيمة ما يكتبه كاتبنا النصراوي المبدع.
ما ان نطقت بقولها الاخير هذا، حتى رأيت صديقي يستأذن في الخروج، ويولي مثل طائر رُخٍ اتعبه السفر من الفا ليلة وليلة الى اعماق الناصرة، كان يبدو حزينا.. في ذروة الحزن، وعبثا حاولت ان افسر حزنه، هل دفعه اليه مقارنته بين وضعه، وبين ما صارت اليه اموري من انتعاش، هل شعر انه اهين امامي، وانني لم ادافع عنه كعادتي، هل وضعته تلك المرأة صاحبة القصر، امام فشله المزمن وجها لوجه، فلم يطق نفسه وهرب منها ومني.. من القصر.. ومن.. وقبل ان انطق كلمة: الناصرة، انتابني شعور انه قد يخرج فعلا من الناصرة وان تلك ستكون المرة الاخيرة لرؤيتي اياه، عندها جن جنوني وطرت وراءه مثل طائر رخ آخر، ارسلت نظرة متفحصة متمنية ان تجري اموره بسلام، وبعيدا عن كل توقع قريبا منه، رايته هناك يجلس تحت احدى الاشجار العارية، ويضع راسه بين يديه. كان اشبه ما يكون بكومة من الحزن طلعت من اعماق الارض لتتخذ مكانها تحت تلك الشجرة. تقدمت منه بخطى حافلة بالمحبة والتسامح، وضعت يدي على كتفه بشعور مبلل بأحاسيس الفقد والخسارة المتوقعة، وقلت له انني لا اريد شيئا منه وانه اذا كان يسره ان اترك غرفتي في ذلك القصر وانطلق معه في طريق العودة الى الشارع فإنني سأفعل. عندها رفع راسه وارسل نظرة مرفقة بدمعة من فشل في كل شيء، وربت على كتفي قائلا عد الى غرفتك.. عد الى هناك.. فهناك مكانك الصحيح. في تلك الغرفة وبين جدران قصصها.. ومضى في طريقه محني الظهر.. وكأنما هو يحمل جبالا من الاسف.

 

ראש הטופס


 

 

 

6- اعماق نصراوية
قصة: ناجي ظاهر
الدكتور المحترم
ابتدأت قصتي عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري، في الصف الثاني عشر الثانوي. كان ذلك عندما شاركت ابناء صفي في رحلة مدرسية طويلة نسبيا، يومين الى مدينة البشارة.. الناصرة. قمنا في اليوم الاول بالتجوال في المدينة وكان من المفترض ان تنتهي زيارتنا هذه مثلما تنتهي مثيلاتها من الرحلات، يمضي يوماها، ونعود الى بلدتنا سالمين غانمين، لولا تلك الحادثة التي قلبت حياتي راسا على عقب، وادخلت اليها تشويشا كثيرا.. اعتقد انه استوجب منذ سنوات طلب المساعدة النفسية.. هذا التشويش تواصل خلال اكثر من عشرين عاما. كما هو واضح.. انا اليوم في الثامنة والثلاثين.
كنا لحظة وقوع الحادثة، نشارف على انهاء رحلتنا، فراح كل منا نحن الطلاب المشاركين في الرحلة يشتري الهدايا لأهله ومحبيه، وكان ان سألنا خلال انطلاقنا العفوي في احد الشوارع، شابًا عابرَ طريق عن محل يبيع الاثريات، فارشدنا قائلا انه بإمكاننا ان نصل اليه خلال سيرنا في الشارع ذاته مباشرة، الا انه يوجد هناك شارع اخر اقرب اليه، لكنه عادة ما يكون خاليا من المارة، تشاورت مع مرافقتي عما اذا كانت تود ان نمضي في الشارع ذاته، وتوصلنا بعد نقاش قصير، الى انها تفضل المضي في الشارع الاقرب، على اعتبار انه شارع خلفي، واننا قد نرى فيه الناصرة القديمة.. بتاريخها الحضاري العريق، وزواياها غير المرئية، سرنا في الشارع الاقرب، وراحت كل منا، نحن الصديقتين، تحاول ان ترى الاعماق النصراوية عبر الحجارة والاسوار والورود المسترخية عليها بمحبة وحنو، الامر الذي فصل بيننا، وجعل كلا منا تنطلق في زقاق ضيق. بحثت عن صديقتي عبر ارسالي النظر في اتجاه آخر اعتقدت انها سارت فيه الا انني لم ارها، انتابتني حالة من القلق، فرفعت صوتي اناديها، وما ان عاد الصمت الهيب يهيمن على المكان، حتى شعرت بنفسي بين احضان شاب، يحاول النيل مني، عندما تبين لي ما انا فيه من خطر، قاومت بكل ما لدي من قوة، الا انه تمكن مني، وقبل ان ينال مأربه مني، شعرت بوقع اقدام تندفع من اول الشارع، وبيد من شفاعة وخلاص تمتد اليه وترفعه عني، لتقذف به بعيدا.. بعيدا.. في فضاء الزقاق وضبابه. خلال ثانية او اكثر رأيتني اقف وجها لوجه امام ذلك الشاب الذي ارشدنا، صديقتي وانا، الى حانوت الاثريات، وقبل ان اشكره توجه الى زقاق جانبي آخر، وعاد بسرعة وبرفقته صديقتي الضائعة، ارسل نظرة حافلة بالحنان نحونا، واشار لنا بيده ان نغذ السير، وهو ما قال لنا انه لم يتبق لنا حتى نصل الى حانوت الاثريات.. الا مسافة قصيرة، وما زلت اتذكر انه رافقنا بنظراته الحادبة الراعية حتى وصلنا الى الحانوت المقصود. بعدها اختفى اختفاء تاما، كأنما هو تداخل في احجار الاسوار او ورودها المتدلية عليها بحنو.
حاولت ان اعود الى الوراء، ان ابحث عنه لأشكره على شهامته تلك، الا انني لم اتمكن، وقد ندمت كل الندم لأنني لم اساله عن اسمه او عنوانه لأرسل اليه اشكره، او لأرد له بعضا من جميله علي وعلى صديقتي. كان ذلك الشاب وديع المحيا.. اكثر ما يلفت النظر فيه عيناه عميقتا الغور، وشعره المسترسل على كتفيه، كما كان ذا قوام متوسط، لا هو بالطويل ولا هو بالقصير، واعتقد انه كان يومها في مثل عمري اصغر مني بسنة او اكبر بسنة.
عندما روينا لمعلمنا المرافق، صديقتي وانا، ما حصل لنا وكيف ان ذلك الشاب خلصنا ، انا خاصة، من خطر محتم، عاد معلمنا معنا.. رغم ضيق الوقت المتبقي للرحلة، الى الشارع ذاته، وعبثا بحث عن ذلك الناصري الشهم.. فقد اختفى.. كما تختفي النسمة في عبق التاريخ. 
انتهت رحلتنا تلك، وعدنا الى بلدتنا، لتلح علي صورة ذلك الشاب، فما ان انسى صورته او احاول ان اتناساها، حتى تعود لتلح علي مجددا، إما بعد ان ارى شابا يشبهه، او عندما يظهر لي طيف يشبهه في هذه السماء او ذلك المكان التاريخي العريق، ولا اعرف لماذا شعرت انني قد ارتبطت روحيا بذلك الشاب، علما انه لم يفه بأية كلمة ولم يدل بأية معلومة تقود اليه، وتعرف به، وقد بقيت صورته تلح علي مُدّة قاربت العشرة اعوام، واذكر انه كلما كان شاب يتقدم لطلب يدي وخطبتي، كنت اقارنه به، عبر اختبارات خاصة برعت في حبكها، فأجد الفارق الكبير بين الاثنين، لتأتي النتيجة في مصلحة ذاك الغائب في اعماق الناصرة.. ازقتها وضبابها المقدس، وهو ما يعني انني كنت ارفض الارتباط بمن تقدم الي من الشباب. خلال هذه الاعوام المقاربة للعشرة، جرت مياه كثيرة في نهر حياة بلدتنا وتزوجت معظم صديقاتي، بنين بيوتا وملأنها بالأبناء. وكان لا بد ان اجد حلًا لوضعي مع ذلك الشاب المقيم الساكن في اعماق اعماقي.
ذات يوم من ذات عام، حملت نفسي واستقللت الباص المنطلق من بلدتي الى الناصرة، وصلت في ساعات الضحى، وحرصت اول ما حرصت على ان ازور ذلك الشارع الخلفي، لعلي التقي بذلك الشاب، غير انني لم اعثر له على اثر، قضيت يوما كاملا هناك ابحث عنه وانقب.. غير انني لم افز بالعثور على بغيتي. اصابتني حالة من الهوس، عدت الى بلدتي توجهت الى بيت زميلتي، يوم الرحلة الى الناصرة، ومتاهتنا فيها، وطلبت منه ان تحضّر نفسها لنزور مدينة البشارة. في اليوم التالي استقللنا الباص.. وصلنا الى الناصرة وشرعنا بالتجوال في شوارعها، وكنت طوال الوقت انقب بعيني قلبي عن ذلك الشاب، حتى وقع نظري عليه في احدى الزوايا المعتمة من منطقة السوق- البلدة القديمة. اقتربت من صديقتي وهمست في اذنها عما اذا كانت ترى ما ارى؟ وعندما ارسلت نظرها الى حيث اسدد نظري، قالت لي من فورها.. انه هو. الا انها ما ان رأتني اتوجه نحوه حتى عادت تشدني الى الوراء.. لا اعتقد انه هو. بين هو وليس هو قضينا لحظات لفتت نظر الشاب الواقف في تلك الزاوية المعتمة، الامر الذي دفعه لأرسال ابتسامة شبيهة بابتسامة ذلك الناصري المخلّص. اقترب الشاب منا. وحصل التعارف. وبدون كثير شرح، تقاربت العيون وبعدها القلوب، وارتبط كل منا بالآخر. للحقيقة اقول انني اكتشفت في ليلة الدخلة ذاتها، انه ليس هو، لذا رفضت ان امكنه مني وحافظت على عذريتي لا اسلمه اياها. ومضى على هذا النحو عام، ولم يكن امامي من مفر سوى ان اطلب الطلاق، فكان لي ما اردت، رغم ان "زوجي" رفض في البداية، كونه كان متعلقا بي تعلقا شديدا، وانا لا اخفي عليك ان وجهى الاسمر البسام وجمالي في الشكل والقوام، قد اثرا عليه في الاصرار على البقاء معي تحت سقف واحد. رفض زوجي هذا انتهى بقبوله طلبي الطلاق منه، وكان ان دفعت الثمن مقابل مواصلتي حلمي في العثور على فتى الاحلام الغائب الحاضر، وهو التنازل عن كل حق لي عنده.
ومضت سنوات وسنوات، وانا اتردد على الناصرة، لعلي احقق حلمي في العثور على ذلك الشاب الشهم الاصيل، الا انني ما زلت ابحث، واعتقد انني الآن.. وانا اقارب الثامنة والثلاثين من عمري.. قد التقي به.. فقد رأيت امس، خلال زيارتي الدورية للناصرة، ظله يمر من نفس الشارع و.. يمضي في نفس الزقاق.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

7- معاقطة حمارية
قصة: ناجي ظاهر
بعد ثلاثة ايام وثلاث ساعات وربما ثلاث دقائق، بات كل منا، نحن الاثنين، هو مُهجّر الجبال وانا مهجر السهول، يفهم الآخر على نحو مقبول ومعقول، وبعد تمعن وادامة نظر توصلت الى ان ما يجمعنا قليل وما يفرقنا كثير. من بين ما جمعنا اشير الى الامور التالية: التهجير القسري، وهذا واضح من اول الكلام، الرغبة في عمل شيء ذي قيمة، وقد قدمني اليه احد الاصدقاء على اساس انني كاتب وبإمكاني ان اؤلف كتابا عن قريته الجبلية. الحلم بالعودة الى القرية المسترخية منذ سنوات بعيدة موغلة في البعد على سرير الخيال. اما ما فرقنا فقد تمثل في عدة امور لعل اهمها .. النظرة الى الحياة، ففي حين كان هو يؤمن ان الدنيا تؤخذ غلابا كنت انا اؤمن ان الدنيا تؤخذ بالحكمة والمنطق. الوضع الاجتماعي، ففي كنت انا كاتبا فقيرا ومجنونا، كما اوحى لي في اكثر من مناسبة ولقاء، كان هو تاجرا عرف طريق الربح، فمشى فيه مرتقيا جباله العصية ومتحديا كل عقلاء العالم. باختصار كنت انا احمل القلم في حين هو يحمل الشبرية.
مع هذا كله ابتدأنا في تأليف الكتاب، وكان كلما مضى الوقت يغذ انطلاقته الى ذراه العالية المرتفعة، يسالني كم من صفحات الكتاب تبقى لنا ليكتمل؟ فكنت انظر اليه باستخفاف من ايقن ان من قبالته يقوم بعمل لا يعرف قيمته ومدى نفعه، وكنت اضيف قائلا: ان تأليف كتاب يحتاج الى وقت وجهد، واننا اذا ما اردنا ان يكون كتابنا العتيد مستحقا للقراءة واهلا للترحيب، فانه يُطلب منا ان نكون دقيقين فيه، فلا نصدره الا بعد ان نتأكد من مصداقية ما ضمه من معلومات.. وجمالية ما قدمه من دفء نحتاج اليه، نحن المهجرين الفلسطينيين، اكثر من كل مهجري العالم. 
ما ان كان مروح ابو النعجة، وهذا اسمه ولقبه ايضا، يلتقي بأحد ممن يفترض ان نلتقي بهم لتأليف كتابنا العتيد، حتى يحذره من عدم الاطالة في الحديث توفيرا للجهد والوقت. في احدى زياراتنا لشخص مسن عاش الاحداث وخبر لسع بارودها، نبهته قبل اللقاء به، الى اننا يُفترض ان نستمع لكل كلمة يقولها باهتمام شديد، وشرحت له السبب قلت له اولا تشجيعا له على الادلاء بكل ما في جعبته من معلومات هامة، وثانيا، احتراما لسنه وتجربته. شعرت انه وافقني الرأي، الا ان احساسا خفيًا شدّني الى الناحية المعاكسة. وقد تأكد احساسي هذا بعد دقائق من اللقاء بذلك الشخص، فما ان امضى بضعة دقائق في الحديث عن القرية، تاريخها ومن قتل من اهلها على ابوابها في عام التهجير، حتى سأله ابو النعجة: والنتيجة.. ماذا كانت النتيجة؟ غضب مضيفنا منه، وبدا ان زيارتنا له في بيته قد انتهت، فما كان منا الا ان حملنا نفسينا، انا السهلي ومرافقي الجبلي، وخرجنا من ذلك البيت شبه خائبين. ما ان ابتعدنا عن بيت مضيفنا حتى اخذ مرافقي يكيل له الشتائم والسباب ويطلق عليه صفات نسوية، الامر الذي استفزني فاردت ان ارد عليه بعنف اكبر، وان اقول له انه هو من يستحق مثل تلك الصفات النسوية التي اطلقها على مضيفنا.. بسخاء انسان بخيل، غير انني ابتلعت ما اوشك ان يخرج من فمي من كلام، ومضيت مفضلا طريق توثيق بلدات الوطن.. بسهولها وجبالها.. وما يحتاج اليه ذلك التوثيق.
مثل هكذا مواقف تكرر فيما بعد اكثر من مرة، ما استدعاني لأن اطلب من نعجيي جلسة تفاهمية على فنجان قهوة فلسطينية، وعندما جلسنا في بيته الفاره على راس الجبل، بادرته سائلا اياه، عما اذا كان يريد ان نواصل تأليف كتابنا؟ فحدجني بنظرة مستخفة، واجابني وهل عندك شك؟، عندها قذفت معظم مشاعري المتراكمة في صدري تجاهه، قائلا له: نعم عندي كل الشك. تحرك التاجر في داخله فقال لي: كنت متحسبا لهذا. انت لا تريد ان تواصل العمل في الكتاب.. قل هذا منذ البداية. ما ان سمعت رده هذا حتى تحرك الكاتب في، فقلت له لو لم اكن اريد ان اؤلف كتابي هذا ما كنت اقطع كل ما قطعته من مسافات نحو كتابته. غرس عينيه في: قل انك لا تريد مواصلة تأليف الكتاب.. فقلت: ولماذا لا اريد ما دمت قد وافقت؟، فازور عني وهو يقول هناك سبب لا اريد ان ابوح به. وبرطم بكلام كثير.. فهمت منه ان قريته الجبلية تستحق اكثر من كل قرية سهلية.. ان يوثق لها ويكتب عنها. 
لم اعر ما قاله النعجي في تلك الجلسة الحادة مثل شوك صبار الجبال، اي اهتمام فقد طلبت منه.. تلك الجلسة.. لمواصلة عملي في تأليف الكتاب، بهدوء وسكينة.. يعرف ما يحتاج اليهما مَن سلك سبيل تأليف الكتب.. حق المعرفة. وليس للتوقف عن تأليفه، ذلك لو انني اردت ان اتوقف عن تأليف كتابنا، لكففت عن اللقاء بأبو النعجة، وانتهى الامر خلال دقائق، اما وقد ناقشته فقد كان من المفروض، انني اريد المواصلة، وان رغبتي في التأليف اكبر بكثير من اية حماقة يمكن ان تواجهني.. او اصطدم بها.
بعد ثلاث سنوات وثلاثة ايام، وربما وثلاثة دقائق، زففت اليه امر فروغنا من تأليف الكتاب، مضيفا ان وقت مراجعته واعداده للنشر قد حان،.. فوجئت بابي النعجة يطلب مني ان اقدم له مخطوطة الكتاب لتقديمها الى المطبعة، وعندما اخبرته ان الكتاب يحتاج الى عمل لا يقل عما مضى من وقت، انفعل وشرع في شتم الكتب والكتاب، بل اذكر انه شتم كل من التقينا بهم من اهل بلدته وناسها، وكاد يوجه الي بالاسم الشتيمة تلو الشتيمة لولا بقية من خجل. مع هذا غيّر توجهه وسألني بغتة عن احوال بقر السهول. فقلت له باندفاع عاصفة ان حالها لا يختلف عن حال حمير الجبال الا في امر واحد. عندها وضع يده على شبريته وسألني بلغة من ازمع ارتكاب جريمة: وما هو هذا الامر يا حضرة الكاتب؟ عندها قلت له: تأليف الكتب. في تلك اللحظة بالتحديد والوعيد.. استل شبريته من غمدها ونزل تمزيقا في الكتاب.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

8- حوادث مائية
قصة: ناجي ظاهر 
سمعت عن فالح الحلواني وقرأت له الكثير قبل ان تجمعني به زمالة في الصحيفة التي يعمل فيها، لهذا عندما قدمني اليه مرافقي الى غرفة مكتبي المشترك معه في الصحيفة، لم اشعر انني لا اعرفه، علما ان ذاك كان اللقاء العملي الاول بيننا. بعد ان اتخذت مجلسي قريبا جدا من مجلسه، رحب بي قائلا:" اهلا وسهلا بك في بيتك"، واضاف يقول.. ان اهم ما يهمه هو النظافة، وانه يتسامح في الكثير من الامور الا في امرها.. فهي خط احمر، في حياته وفي عمله وفي كل ما يقوم به ويفعله على الاطلاق.
بعد قليل استخرج زجاجة ماء من حقيبته اليدوية ووضعها على الطاولة امامه. قائلا الآن ابتدأنا العمل. بعدها تحدث في امور تتعلق بالعمل واهمية ان ننفذه بالسرعة المطلوبة فدواليب المطابع لا تنتظر وتحتاج دائما وطوال الوقت الى ما تشغل نفسها به. بعدها لاحظت انه تناول زجاجة الماء وشرب منها ثلاث مرات خلال وقت قصير، وعندما خرج لقضاء بعض حاجته يا للمصادفة، جاء زميل صحفي من غرفته المجاورة لغرفتنا، تناول زجاجة الماء، وشرب منها، ليعيدها الى موقعها بالضبط حيث جلست مثل عروس في ليلة صمدتها.
ما ان اعاد الزميل زجاجة الماء الى مكانها وخرج، حتى عاد الزميل فالح، وكان اول ما نظر اليه: زجاجة الماء، "هل شرب منها احد"، سال، وعندما بقيت صامتا، انتقل الى الغرفة المجاورة، ليعود برفقة الزميل شارب الماء من الزجاجة، واشار الى الزجاجة قائلا:" الم نتفق على الا تشرب من زجاجتي.. نسيت؟"، ابتسم الزميل:" لم انس لكن ما الذي يضايقك؟"، "لا يضايقني اي شيء"، واستخرج زجاجة ماء مغلقة بورقتها من حقيبته اليدوية، وقدمها له وهو يقول:" هذه كلها لك، اذا احتجت مرة اخرى الى الماء، اطلبه وسوف اقدمه لك، ارجو الا تشرب مرة اخرى من زجاجتي الخاصة. 
غادر الزميل غرفتنا، تناول الزميل الحلواني زجاجة الماء من على الطاولة امامه، والقى بها في سله المهملات، بغضب من فاض به الكيل ولم يعد بإمكانه ان يصبر على ظلم يلحقه اخرون به، وغادر غرفة المكتب، ليعود بعد حوالي نصف الساعة، حاملا ثلاث زجاجات مملوءة بالماء المكرر المنقى. قدم لي واحدة، وهو يقول:" هذه هديتي لك، لئلا يصيبك مثل ما اصاب زميلنا"، فهمت رسالته تمام الفهم، هززت راسي موافقا اياه ومتفهما رغبته في الا يشاركه احد وضع فمه على فم زجاجته المائية. لاحظ تأدبي هذا، بعدها وضع احدى الزجاجتين الاخريين في حقيبته اليدوية، والاخرى مكان تلك التي قدفها الى سلة المهملات، قذفة صاروخية.
في اليوم التالي كان اول ما فعله هو انه دخل الى غرفة مكتبنا المشتركة، هو وانا. وضع زجاجة الماء "المنرالت" امامه على الطاولة، شرب منها جرعة كبيرة، احكم اغلاقها واعادها لتتخذ مكانها الموقر امامه على الطاولة، واندمجنا في العمل، لينتهي يوم.. وبعده يوم اخر، ولافهم مع مضي الايام، انه مشمئز شديد الاشمئزاز، ولا يضايقه في الدنيا شيء كما يضايقه ان يشرب احد من زجاجته، وكثيرا ما كنت اتمعن في هيأته وهو داخل، واحيانا وهو خارج من المكتب، فأرى الى شعراته المنتصبة وراء رقبته، وانزل رويدا رويدا لاتمعن جسمه الضيق من اعلى الطويل من اسفل، فأتساءل عما اذا كانت ملامحه هذه تدل على عبقرية ما؟ وكان يزيد في تمعني له، نظراته الذكية الحافلة بالفطنة، كما انعكس في كل ما قام به من اعمال كتابية لفتت اليه الانظار بصورة تكاد تكون يومية ودائمة.
تواصل عملنا معا فترة اشهر، وكنت كل يوم اراه انسانا جديدا في كل شيء الا في مسالة زجاجة الماء، ومما لفت نظري خلال هذه الاشهر، حادثة مائية صغيرة، كدت انساها، وقعت عندما دخل رئيس التحرير غرفتنا المشتركة وتناول زجاجة الماء من امامه، وهو يقول:" سأقدم هذه لضيف طارئ.. نفذت من عندي زجاجات الماء فجأة". مضى رئيس التحرير حاملا زجاجة الماء، لأنظر الى زميلي الحلواني، وقد احمر وجهه وصمت كأن على راسه الطير، وتمتم بكلمات فهمت منها ان هذا الموقف البسيط سيتسبب له بشيء من الازعاج. عاد رئيس التحرير بعد حوالي ربع الساعة حاملا زجاجة الماء، وضعها امام الزميل الحلواني، وهو يقول له:" لم يشرف منها هاانذا اعيدها لك بالحفظ والصون". 
ارسل الحلواني نظرة غاضبة الى كل مكان تمكن من الصول اليه بنظره، وما ان غادر رئيس التحرير غرفتنا حتى تناول الحلواني الزجاجة، وقذفها الى سلة المهملات قائلا:" قال لم يشرب منها احد.. قال.."، وغادر المكتب، ليعود بعد اكثر من ساعتين، ولافهم من كلمات بسيطة جمعتها من تأففاته بشق الانفس، انه اضطر للمغادرة الى بيته المستأجر في مكان بعيد نوعا عن مكاتب الصحيفة، اما السبب فهو افتقاده للنقود في تلكم اللحظات. فتح الحلواني حقيبته اليدوية هذه المرة ايضا واستخرج منها ثلاث زجاجات مملوءة بالماء المنقى الصافي، وقدم واحدة لي، فوضعت يدي على صدري علامة انني اتقبلها واعيدها اليه مُعزّزة مُكرّمة، هذه المرة وضعها على الطاولة امامه في مكان سابقاتها بالضبط، ووضع شقيتيها المتبقيتين في حقيبته اليدوية احتياطا لاوقات المصائب.. وتوقيا لنفاذ الزجاجات المائية.
بعد حوالي العام من بدئي العمل معه والى جانبه، كنت قد فهمت كل شيء عنه وعن عاته المائية المصفاة، فتجنبت كل ما اعتقدت انه سيتسبب له باي ازعاج، الامر الذي دفعه لان يرسل الي نظرات الاحترام والتقدير واحدة تلو الاخرى، بل انه لم يتردد بالإشادة بي وبكتاباتي امام كل من يلمس منه اهتماما بالكلمة وعالمها الرحيب. اما الامر الاهم.. هو انه أنس لي بعد كل تلك الفترة وخاطبني اكثر من مرة بصفتي صديقا له. في هذه الفترة ذاتها دخل الحلواني ذات صباح غرفتنا المشتركة في مكاتب الصحيفة، واخبرني انه سيقوم برحلة تستغرق نحو الشهر الى العديد من بلدان العالم، وذلك بهدف الكتابة السياحية عنها. وقال لي:" اعرف انك قدها وقدود.. انت ستسد الغيبة".
بعد حوالي الشهر عاد الزميل فالح الحلواني الى غرفتنا المشتركة في مكاتب الصحيفة وبيده ثلاث زجاجات مملوءة بالماء، كعادته حاول ان يُقدّم واحدة منها لي، فوضعت يدي على صدري علامة القبول والرفض المؤدب في الآن ذاته، فوضعها على الطاولة امامه، بعدها وضع الزجاجتين المتبقيتين، في حقيبته اليدوية، وارسل نحوي نظرة طويلة، انفجر بعدها في الضحك،" ما الذي يضحكك؟"، سألته فرد:" هذه حكاية شرحها يطول". احترمت ما قاله عن الحكاية وشرحها، غير ان رغبتي في معرفة الحكاية وشرحها الطويل، الحّا علي، وعندما تذكرت اقاصيص الزجاجات المائية، سالته مباغتا اياه:" ما اهم ما صادفك في رحلتك السياحية هذه؟"، فانفجر في الضحك مرة اخرى، وقال لي: "التقيت بالعيد من ابناء الشعوب المختلفة. واهم ما لفتني هو ان كل الشعوب تعتقد انها الافضل على وجه البسيطة، وهي في الواقع الاقرف"، افترشت وجهي ابتسامة عريضة، اعتقد ان شريكي في الغرفة بات يعرفها جيدا، فتشجع الحلواني على شرح الحكاية، قال:" كان ذلك في احدى القرى النائية، وخلال زيارة مختار تلك القرية تمخط بيده ومدها من فوره الى جاط شمام مقطع للأكل. تناول قطعة منه وقدمها لي..."، ما ان قال الحلواني كلماته هذه حتى رأيت وجهه ينكمش اشمئزازا، وشعراته تنتصب اكثر وراء رقبته. وتابع يقول:" كان ذلك الموقف محرجا، لكن صديقك يُعتمد عليه في مثل هكذا مواقف صعبة.. تناولت منه قطعة الشمام، غافلته وفتحت حقيبتي اليدوية وقذفتها فيها، مختار القرية اعتقد انني اكلتها فتكرم علي بالقطعة الشمامية تلو الاخرى، حتى صفّت الشمامة المقطعة امامه.. في حقيبتي..". دخلنا بعد هذه الحكاية في نوبة من الضحك الحقيقي، ولكل منا سببه في ضحكه ذاك، لأساله عما اذا كان سيشرع في نشر تقاريره عن زيارته تلك، فقال لي:" الشمامة خرّبت كل التقارير..". سالته:" خربتها كلها؟"، فرد بسرعة:" لا تقلق كتبت غيرها عن تلك البلدان التي زرتها.. وعن قرفها وقرف اهلها ومخاتيرها كمان".

 

 

 

 

 

 

 

 

9- سر العمة نعيمة
قصة: ناجي ظاهر
احب ركاد عمته نعيمة، الا انها لم تبادله الحب، وكان كثيرا ما يشعر انها تبتعد عنه كلما اقترب منها، الامر الذي اثار حب استطلاعه، ودفعه كلما دخل الى البيت، للنظر الى باب غرفتها، فاذا ما رآه مقفلا عرف انها هناك، اما اذا كان مفتوحا فإنها تكون خارج البيت،.. اما تُقدّم الحقن الطبية لهذا المريض المحتاج المقعد،، واما في عملها الجزئي في مستشفى "ملائكة الرحمة"، في المدينة. 
منذ فتح ركاد عينيه على الحياة، في بيت اهله الضخم الغائر في اعماق البلدة القديمة، استحوذ على اهتمامه حب معرفة عدم زواج عمته، ابنة الخمسين، وانتقالها للعيش مع اخيها وزوجته في بيتهما، وكان كلما مضت الايام الح عليه السؤال ذاته، فعمته اجمل من امه، ومع هذا امه تزوجت وهي لا.. لم تتزوج، وهي امرأة عاملة تعمل في مجال التمريض،.. وامه لا تعمل، لهذا كان يغتنم كل فرصة ليعرف سر عمته المعتم المضبب الخفي، فكان يحاول استراق السمع الى كل كلمة يستمع اليها عنها.. منها او من احد والديه، دون ان يحظى بأية اجابة شافية. 
كبر ركاد، واصبح في الثامنة عشرة من عمره، دون ان يعرف سر عمته، وكله رغبة في ان يعرفه، وكثيرا ما كان يدخل الى غرفتها عندما تكون أبوابها مشرعة على مصراعيها، فيتأمل كل ما تقع عينه عليه، لعله يجد الإجابة الشافية لسؤال بات يقلقه ويقض مضجعه، غير انه كان يخرج من الغرفة بالضبط كما يدخل اليها.. اقل معرفة واكثر جهلا.. "اه لو اعرف سر بابك المغلق يا عمتي الجميلة"، كان يقول في نفسه، وهو يرسل نظرة آملة مستطلعة، الى الصورة الوحيدة التي علقتها في غرفته: صورة السيدة العذراء. في احد الايام تمعن ركاد في ماسك مفاتيح عمته، فلفتت نظره ايقونة ليسوع الناصرى، كان يبدو فيها.. في اطيب.. وارق منظر. حاول ركاد ان يربط فيما بين ما رآه في غرفتها وبين مفاتيحها، الا انه لم يخرج بأية نتيجة، فهو يعرف ان عمته امرأة متدينة وانها تتردد كل يوم احد على كنيسة المدينة، لتؤدي واجباتها الدينية كاملة وغير منقوصة.
مضت الايام.. وكان ركاد كلما نسي سر عمته، او انسته اياه الليالي والمشاغل، عاد يلح عليه، الى ان تعرف على ابنة الجيران، وراح يواعدها سرا.. بعيدا عن عيون الناس، وكان كثيرا ما يلتقي بها بسرعة ويفترق عنها بسرعة اكبر. في لحظة الصفر من احد لقاءاته بمن اختارها قلبه، ما ان رفع راسه في محاولة لاستطلاع الاجواء، حتى رأى عمته نعيمة فوق راسه بالضبط. احمر وجهه واحتار فيما عساه يقول لها، الا أنها اراحته من الإحراج والعناء، ومضت في طريقها باتجاه البيت في اعماق البلدة القديمة.
تعمد ركاد ان يتأخر في العودة الى بيته، ودخله متسللا على رؤوس اصابعه تجنبا لعمته، غير انه رآها على غير عادتها وقد اتخذت مقعدها في غرفة الاستقبال، حاول ان يتجاهل الموقف، مثلما فعل في مواقف محرجة نوعا ما وقعت له في السابق، وفوجئ بها اكثر تجاهلا منه، لماذا هي جلست هناك على غير عادتها"، سال نفسه وهو يغرق في بحر حيرته. 
مضت الايام تغذ انطلاقتها الى المجهول، الى ان المت وعكة صحية خفيفة بالعمة نعيمة، ما لبثت ان اشتدت عليها الامر الذي دفع والديه، لنقلها الى مستشفى" ملائكة الرحمة" في المدينة، وكان ركاد يزور عمته نعيمة يوميا وعلى مدار الساعة تقريبا، فقد وجد نفسه يتعلق بها كما لم يتعلق بإنسان آخر، وبدا خوفه عليها واضحا، فبذل كل ما في جهده لان يخفف عنها، وفي ان يساعدها في الابلال من مرضها، وجاءت النتيجة الطيبة، شفيت العمة نعيمة وعادت الى غرفتها، غير انها لم تعد قوية كما كانت، وبدا الهزال عليها واضحا جليا، فبدت اكبر من عمرها بعشرة اعوام، كأنما هي في الثمانين. بعد عودتها هذه شعر ركاد بتغير طفيف في توجهها نحوه، بل انه احس في احدى جلساته اليها، انها ستكشف له سرها وستفتح امامه باب غرفتها المقفل، غير ان ظنه خاب. 
في احدى الليالي الطويلة شعر ركاد بحركة غريبة وغير مألوفة في غرفة عمته نعيمة، فاقترب من باب الغرفة متسللا على رؤوس اصابعه، ليرى عمته وقد جثت امام صورة العذراء النصراوية.. وراحت تناجيها بكلمات هيمن عليها الغموض، بالكاد فهم منها انها تطلب المغفرة لكل الخُطاة في العالم. اثار هذا المشهد مشاعر ركاد الخفية نحو عمته، فدخل غرفتها وجثا الى جانبها على ركبتيه، ضاما ضراعته الى ضراعتها، ومبتهلا الى العذراء طالبا منها انقاذ خُطاة العالم.
ارسل ركاد نظرة مستطلعة الى وجه عمته، فشعر بشبح اشبه ما يكون بشبح الموت يتلبس وجهها، شعر بنوع من الرهبة، غير انه لم يستسلم لمشاعره، بل ان دمعة لمعت في عينيه. بادلته عمته النظر:
-هل تذكر يوم رأيتك فجأة مع تلك الفتاة؟
- اذكر يا عمتي.. اذكر.
-اما زلت على علاقة بها؟
-طبعا يا عمتي.. ما زلت على علاقة بها. لكن لماذا تسالينني؟
طفرت دمعة من عيني العمة: "اعتقدت انك قطعت علاقتك بها". وربتت على كتفه مضيفة: "لا اريدك ان تعبث بمشاعر بنات الحارة، فلهن قلوب تشعر وتحس".
اقترب ركاد من عمته أكثر فأكثر. انتابه شعور شديد بأنه على حافة سرها العظيم يقف، احتضنها بقوة سبعين عاما من الاهتمام والمحبة المضمرة. شعور طاغ انتابه انه انما يحتضن من اختارها قلبه، ابنة الجيران بالتحديد. واندمج الاثنان ركاد وعمته اول مرة.. اندماج من عرف سرا اقلقه طوال ايام حياته.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

10- مرأة القوقعة
قصة: ناجي ظاهر
تسللت اشعة الشمس عبر الستائر المنسدلة على نافذة البيت الكبيرة، ارتطمت بوجه الام المسترخية على سريرها القريب من النافذة، فتحت عينيها وغمضتهما. قبل قليل غادر زوجها الى شانه، احست به حين فتح الباب وخرج بخفة كائن محتملة.. كي لا يوقظها، هي تعرف انه بات رحيما بها اكثر منذ وقعتها الاخيرة، لقد كادت تفقد حياتها لولا رحمة الله.. ومحبة الابناء. هي لا تنكر ان ابناءها، حفظهم الله وشملهم برعايته، أدوا الواجب واكثر.. خلال وقعتها تلك، وقد واكبوها، منذ مغادرتها الاسرة البيضاء، حتى عودتها الى بيتها ذاك، محيطين اياها بكل ما في الدنيا من محبة وحنان. في بداية ابلالها النسبي من وقعتها "اللي ما تتسمى"، واصلوا زيارتها يوميا، بعدها اخذت زياراتهم لها، في التقلص الى ان تحولت من يومية الى اسبوعية، بعدها تحولت الى مرة كل اسبوعين، فمرة كل شهر،، وبعدها مرة كل سنة. منذ مغادرتها المستشفى ولزومها بيتها، ابتدأت تشعر بالوحدة الرهيبة تحيط بها من كل جانب، لا احد يشعر بها سوى زوجها، الا انه كبر وبات مريضا متعبا بطئ الحركة. ازاحت الستارة واطلت على الخارج، النهار يتعالى وموعد مجيء ابنائها كما توقعت يقترب. بعد قليل سيمتلئ البيت بالأبناء والاحفاد، هذا اليوم سيكون مختلفا بطعمه لونه ونكهته.
الابناء يتدفقون الى بيتهم الكبير القديم واحدا تلو الآخر، الحمد لله كل من ابنائها، خاصة بناتها يرافقه عُرّ من الابناء. اتخذ كل منهم مجلسه قريبا منها والى جانبها، التفوا حول سريرها مثل طوق من الورد، تحياتهم :"كل عام وانت بخير يا امي"، لها هذه المرة طعم آخر، تنظر الى ابنائها وبناتها واحدا واحدا، تنتقل بعدها الى ابنائهم، كم يشبه هؤلاء الاحفاد ابناءها وبناتها، بل انها تشعر بانهم يشبهونها هي ايضا، تبادر ابنتها الصغرى الى هديتها، تزيل عنها لفّتها الورقية وبعدها الكرتونية، تقدم هديتها لها، راديو متوسط الحجم. " بدي اياك تتسلي"، يأتيها همس ابنتها من بعيد. بعدها يتتالى الابناء والبنات في فتح هداياهم وتقديمها اليها. اكثر هدية اعجبتها كانت فيديو كلب طريفا لأغنية " ست الحبايب"، الصور في "الفيديو كلب"، تحكي حكايتها مع ابنائها وكأنما وقتها لم يمر، كأنما هم ما زالوا صغارا. تختلط في مخيلتها الصور، بالأمس القريب كان ابناؤها اطفالا صغارا يضج بهم البيت، وها هم اليوم يأتون مع ابنائهم وبناتهم، وكأنما هم يعيدون فيلما قصيرا، سبق وشاهدته في الماضي، وها هو القدر يمكنها من تكراره.. لتراه مرة اخرى في حياتها وبصيغة اخرى.
التفاف ابنائها حولها اليوم يبعث فيها الحياة، تنسل من بينهم، تتوجه الى زاوية المطبخ، تجمع كل ما اعدته لهم من حلويات ومكسرات. تعود به لتضعه على المنضدة امام كل منهم، تنتبه بناتها الى انسلالها ذاك من بينهم، فيبادرن واحدة بعد الاخرى، لتوجيه العتب المحب اليها:" خلي عنك يما.. تتحركيش من محلك اليوم". كلمات الايثار، تنهال عليها من حول المنضدة الحنون، تدفع الحياة في عروقها، هذه هي الحياة مشوار قصير، يمضي في غفلة منا، لنجد انفسنا وقد كبرنا ومضى قطار ايامنا شاقا غبار الزمن.. 
سبحان الله ها هو بيتها على غير عادته يضج بالحركة، تعلو ثغرها ابتسامة خفيفة تلفت نظر ابنتها الكبرى، فتقول لها، اليوم هو يومك يا ست الحبايب، بدناش اياك تتعبي بالمرة، احنا بنسدّ عنك اليوم، بدنا تشعري انك الملكة. تمد يدها تمسك بيد امها تستخرج زجاجة مناكير ذات لون احمر فاقع من حقيبتها القريبة منها، تستعرض اصابعها واحدا واحدا، بعدها تشرع بطلي اظفارها باناه وترو. تعود بها الذاكرة الى سنوات بعيدة، بعيدة، في يوم مشابه لهذا فعلت نفس ما تفعله كبيرتها مع امها، يومها ابتسمت امها فشعرت ان الوردات على نافذة بيتها شاركنها الابتسامة. 
تتساءل ابنتها الصغيرة:" وين ابوي"، هذه الصغيرة لا تنسى شيئا، انها دائمة الحركة ودائمة السؤال، بل دائمة المحبة، هي تذكرها بنفسها ايام كانت في مثل عمرها، كانت تربط شعرها ذيل فرس، وفي مواقف مشابهة تتذكر الغائبين من ابناء عائلتها. "طلع ابوك من الصبح". تقول لها، وتضيف" اكيد هو عارف انكوا رايحين تيجوا اليوم، قلبي بقلي انه رايح يجي اسه .. كمان شوي". بعد حوالي ثلاث دقائق يُسمع طرق على الباب، تتوجه الى ابنتها الصغرى، انها لا تكبر.. مهما كبرت، تقول لها: "هذه دقة ابوك. افتحيله الباب".
تتوجه انظار الجميع، الابناء والاحفاد، نحو باب البيت، يدخل زوجها ابو الابناء، كم كبر خلال مرضتها الاخيرة. اول ما فتحت عينيها بعد وقعتها اياها، كان هو يرسل نظراته اليها راجيا اياها ان تقوم:" بديش ولا اشي.. بس قومي" يومها تابع هامسا بصوت اراد ان تسمعه هي فقط:" بديش لا دور ولا املاك. قومي عشان اعوضك". بعد ان قامت من وقعتها، شعرت به اكثر حنانا، واكثر رقة في التعامل معها، وعندما كان يضطر لمغادرة بيته تاركا اياها وحيدة، كان يعتذر لها قائلا:" مش راح اطول.. ديري بالك على حالك"، وكثيرا ما كان يقول لها:" شغلي تلفونك اتصلي ببناتك باخواتك. بديش اياك تشعري باي وحدة". 
يدخل زوجها، يتخذ مقعده قريبا جدا من سريرها، تنتشر الابتسامات على وجوه الابناء، الان بإمكان كل منهم ان ينصرف الى شأنه. ترسل نحو كل مُولٍّ منهم باتجاه باب البيت، نظرة حافلة بالاسى، يعود الهدوء القاتل ليخيم على نافذتها وستارتها مجددا. يستأذن زوجها منها، ليدخل غرفته الملاصقة لغرفتها، "اذا احتجت لأي اشي ناديني". ترسل نظرة اليه لقد كبرنا.. ختيرنا معا.
يفرغ البيت، يعود الى ما كان عليه في صبيحة اليوم، تشعر بالوحدة تحيط بها من كل جانب، يلح عليها شعور غريب، يحملها الى نافذة بيتها المطلة على الشارع، ترى ابناءها يعتلون سياراتهم واحدا تلو الآخر. ويولوّن بعيدا.. بعيدا.. تتساءل عما اذا كانت ستعيش حتى اليوم المقابل لهذا اليوم من العام القادم. وهل سيتلم ابناؤها حولها مثلما فعلوا قبل قليل؟ وتعود الى قوقعتها.. ووحدتها..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

11- الغزال المرشد
قصة: ناجي ظاهر
ابتدأ كل شيء خلال تصفحي لصفحات الفيسبوك، كان ذلك عندما وقعت عيني على صورة فتاة جميلة سبحان من كون ومن صور، تحت الصورة قرات اسمها:
قمر سالم البيك
والى جانب الاسم عنوان خبر عن مهرجان سينمائي، يعرض في المدينة. استفزني الاسم والخبر، فأقبلت على الخبر لأقراه وأتأكد مما تداعى الى ذهني من افكار وذكريات. كل ما خطر لي كان صحيحا. اما سليم البيك فهو محام صديق جمعتني به الاجواء خلال عملي في صحيفة وطنية صافية، قبل اكثر من ثلاثين عاما. كان سالم البيك يومها محاميا صلب الموقف متماسك الراي، وكان اعزب في الثلاثين من عمره، عندما سالته لماذا هو لم يتزوج حتى الان، قال لي انه قرر ان يتزوج القضية، بالضبط مثلما فعل قائدها الاول، وعندما سالته لماذا اخترت مهنة المحاماة، رد علي بقصة تشبه الحكاية، مفادها انه من قرية عين غزال المهجرة وانه اراد منذ تفتح وعيه ان يكون ابنا بيارا لأبيه الراحل، وسوف يعمل كل ما بوسعه للدفاع عن حق العودة، وعن كل من تعتقله السلطات او تسجنه بسبب آرائه السياسية.
بعد فترة وفد الينا البيك لزيارتنا كعادته، ولاحظنا انه برفقة صبية شابة ذكرتنا بظبية عاشت في اخيلتنا منذ ازمان بعيدة سحيقة.. موغلة في البعد، وبما ان البيك قرر في تلك الفترة ان يكتب زاوية صحفية يُعلّم فيها من يخرج عن خط الوطن درسا لا ينساه، عبر لسعة زقرطية فلسطينية شبعانة من ازهار بلادنا الحبيبة، فقد اتفقنا على اطلاق صفة النحلة على مرافقته التي تحولت في اللقاء زيارته الثانية ليقدمها لنا على انها خطيبته لقب النحلة، بعد سنة من تلك الايام، في الخامس عشر من ايار بالتحديد، ارتبط المحامي زقرط البيك بنحلته. وقد سالته في اول زيارة له بعد ارتباطه بنحلته عن سبب تغييره رايه في مسالة الزواج، فرد علي قائلا: لا رد.. ولا تعليق. تقبلت رايه باحترام كبير ولم اناقشه فيه، فقد كنت واثقا تمام الثقة انه انسان عاقل، وان حلمه بالعودة الى عين غزاله، ستبقى بوصلته الموجهة له في صحراء العرب، سواء ارتبط او لم يرتبط. وتمر الايام وتغلق السلطات صحيفتنا، لنتفرق كل في مكان، فتفرقنا السبل والمشاغل، وهاانذا اصطدم باسم كريمته قمر، ممثلة في فيلم سينمائي يعرض في مهرجان بإمكاني حضوره ومشاهدة ما يعرض فيه من افلام. ترى.. عماذا يتحدث فيلم قمر سالم البيك، ابنة الزقرط اللاسع.. والنحلة المعطاء؟ تساءلت، وانا اعرف انه لا جواب قبل مشاهدة الفيلم العتيد.
يوم الخميس في الساعة السابعة الا خمس دقائق، كنت انتظر قبالة مبنى السينماتيك وكنت ارسل نظرة آملة الى لافتة الاعلان المعلقة على واجهة المبنى، ضمن محاولة استجلاء بت بحاجة اليها، انا الانسان الحالم، رفيق والد ممثلتنا الشابة سالم البيك، الزقرط افندي. بما ان قراءة ما ضمته اللافتة، رغم ضخامتها، من صور وكتابات، لم يكن واضحا لي، ربما بسبب المرض والعمر المتقدم، كان لا بد من الاقتراب من تلك اللافتة لأمتع ناظري برؤية قمرنا، ولأقرأ اسم الفيلم التي ستمثل فيه. كان اسم الفيلم بالضبط كما توقعت:" عين غزال". 
بينما انا مستغرق بين ماضٍ حافل بالذكريات والمحبة للارض، عصافيرها، اشجارها واعشابها، شعرت ان الحركة ابتدأت تدب في كل مكان، وان الناس اخذوا يتوافدون زرافات ووحدانا، وما ان تلتف حولي لاستطلاع العابرين كعادتي، حتى وقع نظري على قمر وقد نزلت من سيارة فارهة يرافقها عدد من المشجعين المحبين، لمعت قمر كباقي الوشم في ظاهر اليد، واختفت في زحام المتجمهرين بانتظارها، حاولت ان الحق بها ان اقول لها كلمة تشجعها على المضي في طريقها الى قرية الآباء والاجداد، عين غزال، الا انها ما لبثت ان اختفت في الزحام، ودخلت الى دار العرض، لتكون ضيفة العرض، كما قرات قبل قليل. "سأحاول الاقتراب منها بعد العرض. سأحكي لها حكاية تلك الصحيفة، وقصة ذلك الزقرط العنيد وتلك النحلة المعطاء.. الرائعة". قلت لنفسي، ودخلت من بوابة السينتماتيك.
عندما اتخذت مقعدي المفضل حين حضوري الافلام في الصف الثالث ابتداء من الاول، المقعد الاول، كانت القاعة مضاءة، وكان الناس يتوافدون واحدا تلو الاخر، ارسلت نظرة الى صف المقاعد الاول فرأيت قمر البيك، تتخذ مجلسها هناك مثل عناة الكنعانية، كانت اشبه من تكون بآلهة في اهاب صبية، ذات اصل وفصل. اظلمت القاعة ايذانا ببدء العروض، كانت الافلام وثائقية قصيرة، ينتهي فيلم ليبتدئ آخر، وكما قرأت في اللافتة الضخمة قبل قليل، جاء فيلم "عين غزال" الذي انتظرته طويلا، مسكا لختام المهرجان.
تابعت احداث الفيلم بحالة من النشوة على غير عادتي في متابعة الافلام السينمائية، وكنت اتابع اللقطة تلو اللقطة، وحمدت الله انني لم ارافق احدا لحضور المهرجان، فقد كنت انتظر كل مشهد وكأنما هو يحكي عني انا المهجر الابدي، الباحث عن بيت وظل شجرة. ابتدأ الفيلم برواية قصة عائلة البيك، مُعّرفا بها وبأفرادها ومقدما اياهم واحدا واحدا بكلمات قصيرة. الزقرط بيك ما زال الزقرط القديم الذي عرفته قبل اكثر من ثلاثين عاما، والنحلة ما زالت كما هي ذات اطلالة مبهرة ونظرات حالمة. ببطء شديد ومنظم توصلت الكاميرا الى قمر عين غزال، ابنة احبائي القدماء، لتستعرض معها قصة حلمها بالعودة الى عين غزالها، لقد بكت تلك الرِئمةُ المقبلةُ من ماض تليد الى حاضر جديد، كما لم يبك احد، وسط اسراب الظباء المنطلقة في كل مكان، تجوب انحاء قرية مهجرة، غير انها توقفت فجأة لتقول لمشاهديها، انها لن تبكي اكثر، وانها ببكائها ذاك.. انما كانت تجسد دموع والدها، اما الان.. فإنها ستهتف في وجه العالم القاسي.. وسوف تنتصر لأبيها وجدها وكل من احبتهم من الناس، وتصرخ بملء صوتها: انا عائدة الى عين غزال.
عندها ضجت القاعة بالتصفيق، وتوقف العرض. اندفع المحبون والمؤيدون، باتجاه قمر وحملوها على الاكتاف، وهم يجرون حاملين اياها وراكضين باتجاه عين غزال.. ركض الموكب وركضت نحوه اريد ان اشارك فيها، اريد ان ارى قمر، اريد ان احمّلها تحياتي الى والديها.. غير ان الموكب، مضى مندفعا باتجاه تلك العين التي ابكت ابناءها وحان لهم ان يضحكوا.. عندما ابتعد الموكب.. حملتني قدماي الموهنتان جراء المرض والشيخوخة، وعدت شابا معافى بالضبط كما كنت قبل اكثر من ثلاثة عقود من الزمان.. وركضت نحو عين غزال مسترشدا بقمرها المكتمل المتألق.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

 

12- لغز الاختفاء
قصة: ناجي ظاهر
.. وتسالونني لماذا اختفيت.. لماذا ابتعدت عنكم؟ سؤالكم يتسبب لي بالكثير من الالم، ويفتح جرحا ما زال نازفا رغم مضي الوقت الكافي. جرح ترك ندبة لا تمحوها الايام وكلما نظرت اليها عدت الى الم ممض نغص علي ايامي وليالي.. الم اردت دائما ان انساه او اتناساه، ان اتجاهله عندما يلح علي في اوساط الليالي الطويلة. كم كنت اود الا توجهوا الي هذا السؤال، اما وقد وجهتموه وابيتم الا ان تعودوا الى الماضي فإنني سأجيبكم عليه، وسوف افتح دفتر ذكرياتي خلال وجودي معكم وبينكم، يا من اردتهم ان يجبروا خاطري فكسروه قلبي.
اعتقد انكم ما زلتم تتذكرون ايام جئت اليكم وقد سدت الدنيا منافذها كلها بوجهي، املا في ان تفتحوا انتم ابوابكم امامي، يومها دخلت بيتكم ومنذ اللحظة الاولى لوضع قدمي على ارض بيتكم شعرت انني بين اهلي واحبابي المنشودين، زاد في شعوري هذا تلكما العينان اللتان ارسلتا نظرة وحيدة تشبه نظرتي واختفت اختفاء برقة في يوم عاصف، يومها جلست اليكم، وجرت بيني وبينكم احاديث واحاديث، فهمت منها كل شيء عنكم، كنتم اناسا بسطاء من مهجري قرية " هندباء". كنتم باختصار تشبهونني.. انا المهجر الابدي،. وكنتم، وانا لا انكر فضلكم رغم كل ما فعلتموه بي واحدثتموه لي من الام، تستقبلونني بابتسامة وتودعونني بأفضل منها. اما انا فمنذ لمعت تلكما العينان من وراء احد ابواب بيتكم، وانا احلم بان اراها مرة اخرى. الى ان كان يوم ربيعي مشمس.
في ذلك اليوم قمت بزيارتكم كما كنت افعل في العادة، لأجد باب بيتكم مشرعا في وجهي، دخلت الى هناك وسط صمت قال لي انكم لستم هنا، واخذت اتمعن البيت واغراضه، في انتظار عودتكم من الخارج، ولفتت نظري صورة معلقة على جدار خفي لرجل يعتمر الحطة والعقال، كان رجلا معمرا، شعرت على الفور انه شخص مهم بالنسبة لكم، كانت ملامحه تدل على طيبة اصيلة ومتأصلة فيه، وقد اثارني ما لمست في وجهه من حزن، فعزوت ذلك الحزن الشفاف الى تهجيره من هندبائه، وقذفه لان يتشرد في طول البلاد وعرضها، باحثا عن طعام يقريه وملبس من البرد يحميه وسقف يؤويه. تمعنت في ذلك الوجه وطال تمعني، الى ان شعرت بحركة تخترق السكون المهيمن على المكان حوالي، يومها لم التفت الى الوراء، قلبي قال لي انني امام بوابة سرية بحثت عنها طويلا اقف. وانتظرت ان تكشف لي تلك الحركة عن نفسها، لا فاجأ بعد لحظة من الترقب والانتظار، كادت تكون دهرا، بصوت نسوي ناعم يأتيني من خلفي كأنما هو مطر ناعم في خريف بعيد بعيد:
-الا تعرفه؟
بقت صامتا، فعاد الصوت يُعرّفني:
-انه جدي الهندبائي. 
التفت باتجاه الصوت، لتحط عيناي في غابة نخيل اجمل عينين في الوجود.. مثل طائر ارهقه الطيران بحثا عن شجرة يرتاح فيها، ووجد تلك الشجرة الوارفة فجأة امامه وقبالة عينيه. كانت تلكما هما العينان اللتان رايتهما في اول عهدي بكم، توقفت مكاني، انعم النظر في تلكم العينين. كنت اشعر بنفسي في عالم آخر اتجول بين الاشجار والانهار، كأنما انا الابن الاول وكأنما هي البنت الاولى. غبت عن الوجود.. طائرا مُحوّمًا في عالم هلامي حالم. ما اجمل ان تجد نفسك فيما تمنيته ونشدته. بقيت على تلك الحال الى ان جاءني صوتها: 
-جدي كان رجلا حقيقيا بسيطا.. لكنه لم يكن متساهلا.
-اشعر بهذا. قلت وانا في غيابي عن الوجدان.
-حقا ما تقول؟ قالت بانفعال شديد، واضافت: كلامك يشبه كثيرا ما سمعته عنه. لكن كيف عرفت صفاته؟
-وجهه قال لي كل شيء. قلت.
وفاجأتني ببراءة غير متناهية:
-وماذا يقول لك وجهي؟
بقيت صامتا. خشيت ان اضايق اميرتي بأي كلمة، فعاد تكرر سؤالها، وعدت اتابع صمتي. وعندما شعرت بالفراغ الرهيب يحط بيني وبينها، مثل طائر اسود، قلت لها فيما بعد اخبرك. عندها اضاء وجهها بابتسامة ابرزت عمق عينيها، والحت علي، فاغتنمت الفرصة وتجرأت سائلا اياها عما اذا كان بإمكاني ان اراها في مكان اخر، لأنني لا استطيع ان اراها في بيتها، وفوجئت بها توافق على اللقاء بي.
اقترحت عليها من فوري ان نغتنم الفرصة للقاء الان الان وليس غدا، وتمكنا من اللقاء، وفي اول فرصة سانحة سألتني عما اراه في عينيها، فقلت لها بسرعة من يريد ان يكسب العالم كله بضربة حظ واحدة.. انني ارى فيهما الدنيا.
وحدث كما عرفت فيما بعد انها عند عودتها الى البيت، وجدتكم هناك، فشرع كل منكم بالتحقيق معها، مَن سمح لك بالخروج من البيت، اين كنت وماذا فعلت؟ وقد بقيت صامتة لم تصرح بما يدل على انها كانت معي، ما زاد في شككم انها فعلت امرا عظيما.. ادًا. وارتكبت جرما سيمرغ رؤوسكم في تراب البلد، اما انا فقد هيأت نفسي لان ازوركم في اقرب وقت ممكن، لطلب يدها، كي اضمها الى عشي الوحيد الدافئ، ولا اخفي عليكم انني بت اشعر، بعد ذلك اللقاء اليتيم بها ان الحياة بدونها لن تكون وانها تربعت على عرش قلبي وعيني.. زملكت قياد حياتي ووجودي. 
انني اشعر الان وانا اكتب لكم هذه الكلمات، بحسرة في قلبي ودمعة في عيني، لقد فقدت بفقدها كل شيء، وبت اشبه ما اكون بشجيرة عارية منكمشة على ذاتها قرب الطريق.. لقد تاهت باختفائها حياتي.. فبات من الصعب علي ان اعود اليكم.. الى هناك حيث اختفى قلبي.
ملاحظة: عندما تصلكم رسالتي هذه سأكون هناك لغز الاختفاء
في عالمي الاخر.. معها والى جانبها.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

13- كرائهية الشقة 7 
او: الصديقان اللدودان
قصة: ناجي ظاهر
احد الراسين
تعبت.. تعبت.. تعبت.. اضطررت لمرافقته خمسين الف سنة. شاخ امامي، كل حركة منه تتعبني. لا اريد ان اراه. ختيار كحتوت.. بخيل.. يحسب حسابا لكل شيء حتى للبصلة. كل فجر لازم اتصبح فيه. لازم اقله صباح الخير، وانا اعرف انه لا يتمنى لي.. لا الخير و.. لا غيره. في الامس قضى على كل شيء جميل بيننا. كان ذلك عندما جمعتنا جلسة مسائية. 
هو: اشم رائحة شيء يحترق.
انا: حقا ما تقوله؟
هو: الا تشم؟ هل فقدت حاسة الشم؟
انا: هلا كففت عن هذه اللهجة الاتهامية؟
هو: انا لا اتهم.. بقدر ما اتساءل.
هكذا تواصل النقاش بيننا، لا انا آخذ حقًا معه و.. لا هو يعطي حقا. لهجته المقنعة تجاهي.. هذه اللهجة المبطنة بأطنان مطنّنة من الكراهية، تزعجني ولا تدعني اغمض عيني.. انها تضغط علي حتى انني انام مفتح العينين. منذ التقينا، قبل ما اعرفه ولا اتذكره من السنوات، منذ اتفقنا على ان نقيم معا ونعيش جنبا الى جنب في شقة الشقية نمرة 7 وانا اشعر انه لا يحبني وان ادعى على الطالع والنازل انه مغرم بي، ويحب رسوماتي، ( نسيت ان اقول لكم انني انا رسام. وهو كاتب.. اسم الله عليه)، هناك موقف.. لا يمكنني ان انساه. وقف ذات يوم قبالة رسمة ابرزت فيها محبتي للقط الاسمر ابن الحلال عاشق درجات بيتنا، فقام بامتداحي قائلا انه لا احد في العالم يُدرك مثل تلك المحبة الكامنة في عينيه (القط)، مثلما ادرك انا. وعندما عرضت تلك الرسمة على اصدقاء واخذت اشرح، احلّل واعلّل، انتظر حتى انهي كلماتي.. وافرغ كل ما بداخلي من قوة، ونزل علي نزول صاعقة مباغتة. ما أقساه. عندما انفض السامر وبقينا، هو وانا وحيدين، ارسلت نظرة عاتبة اليه، فأكد لي ان دافعه الاول والاخير لما قاله، انما هو المحبة المعمرة.. الراسخة بيننا منذ دهور ودهور. 
اما قصة تلك الرائحة فقد تكررت في العديد من الاماسي. "لقد عافت نفسي هذه الرائحة اللعينة"، قال بنوع من التأفف، فرددت عليه:" هل تعتقد انها تأتي من ناحيتي؟"، لحظتها صمت وغرق في ضباب الصمت، ربما ليؤكد لي ان تلك الرائحة القاتلة انما تأتي من تحت رجلي، غير انه لوى عنق جواد كلامه، واكد لي انني اخ لم تلده امه، وان ما بيننا من تلال المحبة وجبالها.. يشفع له.. ارسلت نظرة اليه.. واضمرت ان اضع حدا لما اعيش فيه من الام وعذابات.. سببها هو وليس.. اي انسان اخر.
الراس الاخر
عجيب امر صديقي. شريكي في الشقة. طوال الوقت يُوجه الي الاتهامات.. تهمة بقفا اختها. تعبت منه. هو دائم الاتهام لي. فاذا ما انبعثت رائحة من الشقة، وجّه الي الاتهام، مشيرا الى قدمي ومتهما اياهما بانهما هما اساس.. اساس.. الرائحة الكريهة.. رائحة الاحتراق.. واذا ما لمته.. قام بإعلان محبته اللدود. في الصباح اطلعته، وليتني لم اطلعه، على قصة كتبتها عن صديقين يقيمان في شقة واحدة، ولا يتحمل احدهما الآخر، فما كان منه الا ان قال لي بلغة حافلة بالتهديد والوعيد. لو كنت مكانه لغادرت الشقة الى لا عودة. استفزني اقتراحه الجنوني هذا، فحاولت ان أنتهره. ان اقول له. لماذا لا يرحل هو؟ قصدت الآخر.. غير انني ابتلعت الكلام. وفضلت البقاء في بيت الصمت وبين جدرانه. اما في المساء فقد فاجأني بقصة كتبها، (تصوروا هو يريد ان يكون كاتبا ايضا)، عن صديقين لا يتحمل احدهما الآخر، صديقين يتبادلان اتهامات في مركزها رائحة الاحتراق في الظاهر، والرائحة الكريهة في الباطن. وعندما نبهته الى انه انما يلعب بالنار، ارسل ابتسامة ذات الف معنى، وهو يتشدق بالكلام:
هو: هل يوجد سبب وراء كتابتك هذه القصة؟
انا: لماذا كتبتها؟
هو: اردت التعبير عن امر في خاطري.
انا: هل تعتقد انه بإمكان كل انسان ان يكتب القصص؟ 
هو(بصلف): وهل تشك في هذا؟ كل الناس اصبحوا كتاب قصص هذه الفترة.
انغرس خنجر كلامه عميقا، عميقا، في صدر احلامي، واردت ان اساله عما اذا كان يعتقد ان ما اقوم به من كتابة القصص يغيظه، وبما انني كنت اعرف اجابته مسبقا وانه سيجدد استخفافه المبطن بكتابة القصص، فقد فضلت الصمت. في كل الاحوال كان ذلك الموقف سدّادة لزجاجة عمر من الصبر ومعايشة الضبع في قفص واحد. لقد تأكدت بما لا يقبل الشك، انه لا بُدّ لرحلة العذاب هذه ان تنتهي.. واضمرت امرا.. الشقة لم تعد تتسع لاثنين. 
رئيس لجنة العمارة
اشتكي لي امس ساكن شقة نمرة 3 من رائحة تنبعث من الشقة نمرة 7. لم اعبأ بشكواه هذه، سكان العمارة يكثرون من الشكوى، لهذا انا لا اعول على ما يقولونه ولا اصدقهم. ساكنا الشقة 7، رجلان فاضلان، احدهما رسام يحميه الله، والاخر كاتب قصص اسم الله... فما سبب انبعاث تلك الرائحة من شقتهما؟ ساكن الشقة نمرة 6 يقول ان الرائحة المنبعثة من هناك باتت همًّا يلاحقه ويلاحق ابناء اسرته ليل نهار، بل ان ساكن الشقة 5 غادر شقته ليقوم في فندق بعيد ريثما نجد حلا لمشكلة الرائحة الكريهة. لا اخفي انني انا ابتدأت اشعر بالاختناق كلما اقتربت من عمارتنا المحروسة. لهذا كان لا بد من ان اتوجه الى كل من اصادفه من سكان العمارة بالسؤال عن المرة الاخيرة التي رأى فيها ساكنيّ الشقة نمرة 7، او احدهما على الاقل. كل من سألته اخبرني انه لم ير احدًا من ساكني تلك الشقة منذ فترة ليست قصيرة. لم يكن امامي والحالة هذه الا ان اعقد اجتماعا للجنة العمارة، وقر راينا في نهاية الاجتماع، ان نتوجه الى الشرطة، لعلنا نجد عندها الحل لتلك الرائحة الخانقة، ما ان اتصلنا بالشرطة واخبرناها بالامر حتى اشتكت هذه من انها كانت تبحث عن سبب تلك الرائحة التي زكمت انوف رجالها ومستخدميها، ربما لهذا ما ان بادرنا للاتصال بها حتى امتلأت حارتنا بسيارات الشرطة والى جانبها سيارات الاطفاء وسيارات الاسعاف الاولي. تراكض افراد هذه المجموعات باتجاه الشقة نمرة 7، وكانوا، كما علمنا فيما بعد، كلما اقتربوا من تلك الشقة تفاقمت شدة تلك الرائحة. عندما وصلوا الى باب الشقة. لم يكن امهم سوى ان يضعوا الكمامات الواقية من الكيماوي على وجوههم، وان يخترقوا باب الشقة. ليس ليدركوا سر تلك الرائحة وانما لإخراجها من محبسها. وقد نقلت وسائل الاعلام المسائية عن متحدث باسم الشرطة قوله ان منظر جثتي الرسام والكاتب ساكني الشقة نمرة 7، كانت عندما دخلت الشرطة ومرافقوها من رجال الاطفاء والاسعاف الاولي، قد تحللت نهائيا وان الدود كان قد خرج من الجثتين، وتسلق الجدران.. واعتلى سقف الشقة.. مؤكدين ان عدم وجود متنفس في الشقة.. كان السبب نمرة واحد في.. كل ما حدث.


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

14- نهاية غول
قصة: ناجي ظاهر
ما ان غربت شمس عام 1948، ورحل من رحل من الاهالي الفلسطينيين وبقي من بقي، حتى استجد وضع حافل بالحكايات والاقاصيص،.. وبات مساحة خصبة للأقوال والاقاويل. وقد انتشرت في تلك الفترة قصة الرجل الغول المرعب قاطع الاذن اليمنى، وكان هذا كما تناقل الناس في تلك الفترة، قد تقدم الى سلطات الاحتلال المعنية، بطلب رخصة " جفت" انجليزي، لصيد الخنازير البرية، في الظاهر وللمواجهة اعداء له، طالما هددوه وتوعدوه بالقتل في ليلة معتمة لا قمر فيها، فما كان ممن تقدم لهم الا ان احالوه.. من مسؤول حكومي الى اخر، الى ان توقف في غرفة ضيقة قبالة محقق ذي ملامح قاسية، واستمع اليه بنوع من الرهبة يقول له: سنعطيك رخصة جفت انجليزي وسوف نفتح امامك المجال واسعا لصيد ما تود اصطياده من الخنازير البرية، شريطة ان تتعاون معنا، في انهاء ظاهرة المهربين والقضاء عليها. عندها تصور الغول نفسه يتقلد الجفت ذا الخرطوش الرش، على كتفه ويعتلي جيبا المانيا مصلوبا على بوزه خنوص صغير، فاعجب بنفسه، وتوجه من فوره للمحقق قبالته بنوع من تصعير الخد والصلف.. سائلا اياه عما اذا كان بإمكانه ان يتمادى في طلب كرمه فيزوده بجيب يرتاد به الجبال وينزل الوديان بحثا عن المهربين. ايقن المحقق المنكح انه امام متعاون حقيقي، وانه بإمكانه ان يعتمد عليه، فارسل نحوه نظرة غامضة، وهو يقول: وهو كذلك، فما كان من الغول الا ان سأله ليتأكد مما سمعته اذناه، هل انت محق بوعدك هذا؟ فرد المحقق بصلف اكبر: تعال غدا لتأخذ الجيب. احنا بنلعبش.
في صبيحة اليوم التالي المبكرة، وفد الغول الى مركز الشرطة في القشلة، وحاول ان يدخل ليأخذ الجيب الالماني الموعد، فما كان من حارس المركز الا ان رده مهددا اياه بإطلاق النار عليه، اذا ما تمادى وحاول الدخول بالقوة. ارتد الغول الى الوراء. وسوى منطقة استخرجت منها المناجذ عدة اكوام من التراب ونام عليها وهو يرسل انظاره المترقبة الى فروع شجرة الزنزلخت فوقه. استسلم الغول الى النوم، وحلم انه دخل الى مركز الشرطة ورأى الجيب ينتظره هناك، لكن ما ان اقترب منه ليضع يده عليه، حتى شعر بمحركه يدور بقوة، وبه ينطلق بعيدا.. كان ذاك كابوس، دفعه للنظر في ساعته ليلاحظ ان الوقت قد مضى وان الشمس قد تعالت. 
حمل الغول نفسه ودخل الى مركز الشرطة، وتوجه هذه المرة الى غرفة المحقق ذاته، ليفاجئه هذا مرحبا ومهللا ومخبرا اياه ان رخصة الجفت الانجليزي والجيب الالماني حاضران. افترشت الابتسامة وجه الغول، وقال للمحقق قبالته، ما المطلوب مني؟ كيف على ان اتصرف؟ فنفر به المحقق قائلا: عليك ان تلاحق المهربين في كل مكان وموقع، وان تقتلهم بلا رحمة. وطلب منه ان يأتي اليه بالأذن اليمنى لمن يقتله منهم ليتأكد من انه قتله. وزيادة في الاقناع اردف المحقق يقول: انني اطلب منك هذا الطلب الصعب لسبب بسيط هو انه يوجد هناك من هو اعلى مني.. ومن حقه ان يتأكد انك اديت واجبك على النحو المرجو والمنشود. 
بعد وقت قصير تمنطق الغول بالجفت الانجليزي، وركب الجيب الالماني، وانطلق باتجاه بيته. هناك استقبله اهل بيته بالبِشر والسرور، وتوافدوا واحدا وراء الآخر لتهنئته بما صارت اليه احواله من راحة ونعيم. ومع هذا لم ينم جيدا، وتصور نفسه يطلق النار على مهرب هرب منه، فيسقط هذا ارضا ليقترب منه ويطلق مرة اخرى وسط استغاثته ودموعه، الا انه يبادر لتنفيذ المهمة المنوطة به.. يستل السكين المشحوذ جيدا ويقتطع اذنه اليمنى. عندما هاله ما تصوره خاطب نفسه قائلا" كل شيء في البداية يبدو صعبا". 
وهكذا كان.. انطلق في اليوم التالي باتجاه الخط الحدودي، ولبد وراء صخرة كبيرة بانتظار صيده الاول.. ومضى الوقت دون ان يفد احد، وعندما اقترب المساء، اقنع نفسه انه لن يعثر على ما انتظره وترقب حضوره، وما ان تحرك في موقعه محاولا الانصراف، حتى احس بشبح يقترب من مكمنه مخترقا العتمة والاشجار.. فعاد وانكمش على نفسه. ما ان اقترب الشبح من مخبئه حتى صوّب جفته الى صدره واطلق، لينطلق الرصاص فيخترق صدر الجسم المقترب. تهاوى الشبح امامه صارخا" يما"، فاقترب منه، واطلق عليه مرة اخرى، بعدها استل سكينه الماضية، واقتطع اذنه اليمنى. ومضى في طريقه عائدا من حيث اتى ومتصورا ما سيناله من جوائز وهدايا سنية لقاء عمله البطولي.
تكرر في اليوم التالي ما وقع في اليوم الاول، اما في اليوم الثالث فقد اختلف الامر، فقد انتشر خبر قاطع الاذن اليمنى. الامر الذي جعل المهربين الفقراء يأخذون المزيد من الحيطة والحذر. عندها وجد الغول نفسه في مازق حقيقي، فمن اين يأتي بالأذان ليقدمها الى محققه؟.. وكان ان تفتق عقله المبدع الخلاق، عن فكرة ما لبث ان بادر الى تنفيذها. ارتدى ملابس مهرب فقير، وتوجه، بعد بحث وتنقيب، الى مهرب معروف، ليترافق هذا معه، في عملياته الخطرة، واتفق معه على ان يعطيه الربح الاكبر. المهرب فرح بعرض الغول، ومضى الاثنان باتجاه حي العرب. اشتريا ما ارادا تهريبه من سجائر وايشاربات، ومضيا عائدين عبر السهول الجبال والتلال. عندما تعب الاثنان استلقيا تحت شجرة قريبة من الحدود، ليرتاحا من وعثاء السفر، وعندما سمع الغول شخير المهرب. اقترب منه وغرس سكينه في قلبه، وعندما احس ان روحه قد غادرت جسمه، ادنى سكينه من اذنه اليمنى واقتطعها.
انتشر خبر مقتل هذا المهرب، فراح المهربون يحققون وينقبون الى ان توصلوا الى الحقيقة، الغول هو القاتل. والهدف هي اذن المهرب، والا اين ذهبت اذنه ومَن المستفيد منها؟ وكان ان اتخذ شيخ المهربين قرارا وقال بتصميم:" علينا ان نضع حدا لهذه المهزلة.. والا اكلنا الغول واحد تلو الاخر".
قرار شيخ المهربين، سرى سريان النار في الهشيم اليابس، الحاضر للاشتعال، وكان ان اخذوا ينتظرون ان يفد الغول الى احدهم لمرافقته الى حي العرب. وما ان خرج الغول من بيته متخفيا بزي مهرب، ودلّته حاسته الرهيبة المدربة على احد المهربين، حتى اقترب منه، وعقد معه صفقة، تقضي بان يترافق الاثنان في عملية تهريب كبيرة، يكون فيها نصيب المهرب اكبر. ابتسم المهرب وهو يستمع الى كلام الغول المتخفي، وقال له "تمام افندم". 
عملية التهريب جرت بدقة واحكام، بالضبط كما خطط لها الاثنان، وعندما تعبا في طريق عودتهما، اخذ الغول في التثاؤب، في محاولة منه لان يدفع مرافقه الى النوم، فاخذ هذا في التثاؤب، وافتعل النوم، بل انه راح يرسل شخيرا شديدا.. عندها فتح الغول عينيه، استل سكينه بسرعة وما ان رفعها ليغرسها في صدر مرافقه المهرب، حتى شعر بشيء يخترق اضلاعه.. وضع يده متحسسا هذا الشيء.. واندفع الدم متدفقا غزيرا من صدره.. غامت الدنيا في عيني الغول.. فبادره المهرب بطعنة اخرى.. واعتلاه.. موجها سكينه الى اذنه اليمنى بالضبط.. ومجتثا اياها من مكانها. وضع المهرب اذن الغول في فمه.. وفي منتصف الليل قذف بها قبالة مركز الشرطة.. ومضى مختفيا في ظلام الشارع.. والاشجار.

 

ראש הטופס


 

 

 

 

 

 

 

 

15- عاشقان
قصة: ناجي ظاهر
مصادفة غريبة وغير متوقعة جمعتها به. لقد غاب في ثنايا الليالي كما غابت الكثير من اشياء الطفولة التائهة في بحر الحياة، وها هي الصدفة تجمع بينها وبينه، وفي بيته الصامت. خمسة وثلاثون عاما مرت على الفراق غير المقصود، وها هي تأتي برفقة صديقة لها لقضاء بعض الامور الملحة.. لتجد نفسها امامه.. قبالته ووجها لوجه. 
ارسلت سهاد اليه نظرة طفلة كبرت فجأة فبادلها النظرة، وانصرف عنها بسرعة ذكرتها به حينما كان يرسلها والداها اليه ليُدرّسها فتتحسن علاماتها المدرسية. أيامذاك كانت تغادر بيت اهلها الفقراء لمهجرين.. المستأجر، لتذهب اليه في غرفته الصغيرة المجاورة لبيتها، فيرحب بها ويأخذ بتدريسها بكل مودة واخلاص، ورغم ان عمرها لم يكن تجاوز العقد الواحد، الا ببضعة اشهر، فقد كانت تدرك بحاستها القوية، نظراته المولّهة بها تخترق كيانها لتتربع على عرش احلامها، يومذاك.. هو كان في حوالي الخامسة الثلاثين من عمره، كان اعزب ووحيدا يعيش في غرفته الوحيدة المستأجرة القريبة من بيت اهلها. وكثيرا ما ضبطته وهو يرسل نظرة اعجاب بها وبسمرتها اللافتة، غير انها كانت تفتعل عدم المعرفة، ضامة عدم الفهم الى التياسة في التعلم، في محاولة منها للتخلص من موقف قد ينتهي نهاية غير طيبة. مشاعره نحوها كانت واضحة لها تمام الوضوح، بل انها ما تزال تتذكر انه امتدحها امام اهلها، اكثر من مرة واوصاهم بان يديروا بالهم عليها فقد باتت صبية و"اغمض عيك وافتحهما لتراها وقد كبرت". توصيته هذه قالت لها يومها بصريح العبارة انه يتمنى لو انها كبرت ليرتبط بها، غير عابئ بفارق السن.. ايمانا منه بان الحب لا عمر له. ومضت الايام والشهور، ليأتي والدها ذات مساء حزين، ويطلب من امها ان تعد اغراض البيت لانهم سينتقلون الى بيت اخر.. وجاء اليوم التالي بتندر ليضعوا فيه اغراضهم البسيطة و.. ليرحلوا من بيتهم ذاك ليقيموا في بيت اخد بعيد، ولتنتهي علاقتهم به نهائيا، وكأنما هو كان حلما قصيرا وانتهى. عندما بلغت السابعة عشرة، جاء من يطلب يدها.. بسرعة وافق اهلها، لتنتقل الى بيت من سيصبح زوجها، ولتنجب هناك ابناء وبنات. غير ان صورته هو.. هو.. وليس سواها بقيت تداعب احلامها وكأنما هي ابنة الحياة الابدية. 
الآن، وهي في بيته، احتارت ماذا بإمكانها ان تفعل، فقد بادلها النظرة بالضبط كما فعل عندما كانت معه في غرفته تلك، ترى هل ما فعله.. ما هو الاعادة.. ام انه نسيها مع ما نسيه وطوته الايام؟ اذا كان هو قد نسي فإنها هي لم تنس.. وراحت تراقبه وهو يسكب القهوة في الفناجين العربية، سبحان الله هو يمسك الغلاية بنفس الطريقة الحذرة، ويسكب القهوة بنفس الطريقة التي لفتت نظرها.. برقتها وخلبت لبها.. بطلاوتها. انه يقدم القهوة الى ضيوفه، بنفس الطريقة الكريمة الطيبة الواعية للواجب العربي في اكرام الضيف. الله على تلك الايام.
ترسل نظرتها الى رفيقتها، تغتنم هذه الفرصة، لتقول لها انها مضطرة للانتقال الى بيت اخر" لن اتغيب كثيرا. انتظريني هنا" تقول لها فترد عليها بغير وعي منها. " سأنتظرك"، "ترى هل رتب لنا القدر هذا اللقاء؟ تخاطب نفسها. وهي تشيع مرافقتها خلال مضيها باتجاه باب البيت. تبقى هي ومضيفها القديم الجديد. تغرق الغرفة في الصمت. كل منهما، هما الاثنين، يسترق النظر الى الاخر، وكأنما هو يريد ان يكتشف شيئا ضاع مدة اكثر من حوالي العقدين من الزمن وها هو يعود، وكأنما الزمن لم يمض. 
يجلس الاثنان احدهما قبالة الآخر، ولا يفوهان بأية كلمة، يجلسان وكان على رؤوسهم الطير.. هي تتوجه اليه في محاولة منها لكسر حدة الصمت المخيم على الغرفة. "يبدو ان زوجتك ليست هنا" تقول له،" "انها في زيارة لأهلها.. اخذت الابناء معها"، يرد عليها، تعود في محاولة اخرى لمواصلة الحديث معه. تقول" تغيرت الدنيا كثيرا.. الاولاد في هذه الفترة غير ما كنا عليه"، يتجاهل تلميحها للأيام الخوالي البواقي، يرد عليها قائلا:" لدي خمسة ابناء. بسرعة كبرت سهاد. هي اليوم في العاشرة"، يخفق قلبها بشدة، هو لم ينسها كما خيل اليها، وها هو يخبرها بطريقته، انها ما زالت تعيش معه بالضبط كما هو عاش معها طوال تلك السنوات. تندفع سائلة اياه:" هل ستتأخر سهاد كثيرا؟"، "لا اعرف" يرد عليها وهو يرسل نظرة تائهة من نافذة بيته، "يا ريت اشوف سهاد" تردد، يبتسم:" هي تشبهك الى حد بعيد". تعود الى الوراء تطوي السنوات والعقود طيا، ترجع الى تلك الايام، تتصور ان اهلها بقوا في بيتهم ذاك، وانه انتظر سبعة اعوام فقط، لتعيش مشاعر كتمتها عن اهلها وعن كل الناس، وحتى عن نفسها. اه لو ان الماضي يعود.
يغمض كل منهما عينيه، ويتوه في عالمه، كأنما هو يريد ان يعرف ما الذي حدث فيما بعد، لقد بات الآن انهما لن يعودا الى الماضي، وان ذاك الزمان قد ضرب ما تلاه بيد من حديد. مشاعر المودة لا تموت، وانما هي تختبئ في داخلنا منتظرة اللحظة المناسبة لتعود وكأنما هي لم تول، انهما هما الاثنين، الآن في حيرة من امرهما، ما يربط بينهما لا يعدو كونه صورا من الماضي.. اه لو انها لم ترافق صديقتها الى هنا اه لو انها لم تره ولم يجمعها به مكان، اه لو ان ذلك الماضي لم يكن. الف آه وآه.. تلح عليها دون ان تجد اجابة شافية واحدة. 
يغيب الاثنان كل في تساؤلاته، يحاول كل منهما العودة الى الماضي، لكن عبثا، ها هما يعيشان لحظة قد تكون الاجمل في الحياة، لكنها لحظة نادرة تدمرها الاسئلة الحائرة. 
يسمع الآن صوتا قادما من باحة الدار، انه صوت مرافقتها، لقد عادت. تسمع صوتها يناديها:" سهاد.."، تنتصب واقفة على قدميها، ترسل نحوه نظرة وداع.. تراه قد بات شيخا مسنا.. في لحظة واحدة.. تجر قدميها باتجاه الباحة.. تعتذر لها مرافقتها" لقد تأخرت عليك قليلا"، تقول لها، لقد مر الوقت ثقيلا" ترد عليها سهاد، وعبثا تحاول مرافقتها معرفة السبب.. فقد دفنته سهاد في داخلها.. ومضت برفقة مرافقتها مبتعدة عن بيت الذكريات.. وكانت الاثنتان، خاصة سهاد، كلما ابتعدت بدت اصغر.. حتى تحولت الى نقطة تكاد لا ترى.. وغابت في الفضاء الممتد الرحب..