الفن بين الحرية والموالاة

3/22/2019 10:20:26 AM بواسطة حسين


                      الفن بين الحرية والموالاة

                                       حسين فاعور الساعدي-الجليل

في كل زمان وفي كل مكان كان وسيظل ذلك السجال بين الفنان سواء كان شاعراً أو كاتباً أو رساماً وبين الحاكم أو السلطان. هذا يريد منه ليس تفكيره الحر وإنما تفكيره الموالي، وذاك يحاول الإفلات بجلده ليسبح في فضاء حريته المطلق. وبما أن وظيفة الفن هي توجيه الفكر وتربية الوعي فإن الحاكم لا يتوانى عن السعي المتواصل لتحجيم ذلك التوجيه والسيطرة والتحكم على سبل تلك التربية. من المفروض بالفنان الحقيقي أن يكون إنساناً غير عادي لا يهمه بريق المال ولا بريق السلطة كبقية بني البشر، بل كل ما يهمه هو حريته المطلقة التي لا حدود لها والتي لا يقبل مقايضتها بالمال أو بالمركز. هذه الحرية المطلقة هي الوحيدة القادرة أن توفر له سبل الإبداع وأدوات التغيير، وتمنع السيطرة عليه ليظل عصياً على التطويع. الحرية المطلقة هي الدفيئة والحاضنة للخيال الضروري لخلق الوعي وإطلاق الفكر.

كيف يمكن تطبيق هذا الكلام الجميل البعيد عن الواقع المر الذي نعيشه؟ ماذا مع رغيف الخبز الذي اهتم الحاكم ان يجعله شغلنا الشاغل ليمنعنا من التفكير بالحرية؟

لا شك أن الصراع بين سلطة المادة وسلطة الروح كان وسيظل ما دام هنالك حاكم ومحكوم. الحاكم يحاول المحافظة على ما هو موجود وذلك بتجميله ثقافياً بواسطة من يملكون أدوات التجميل من الفنانين على مختلف مشاربهم. لذلك يلجأ إلى رشوتهم بمختلف الوظائف والمراكز أو بمنحهم الجوائز والمنح ليحد من مجال خيالهم وليروض حرياتهم بعد شراء عواطفهم. وهنا يحضرني ما تمناه توفيق الحكيم لنفسه بسبب علاقته الخاصة بجمال عبد الناصر وحبه الشديد لهذا الرجل العظيم: "إنني أرجو أن يبرئ التاريخ عبد الناصر لأني أحبه بقلبي، ولكني أرجو من التاريخ ألا يبرئ شخصاً مثلي، يحسب من المفكرين، وقد أعمته العاطفة عن الرؤية ففقد الوعي بما يحدث حوله"

جمال عبد الناصر لم يبق جائزة ولا منحة إلا وقدمها لهذا الكاتب الكبير ليس بقصد ترويضه وإنما تقديراً وإعجاباً. لكن النتيجة كانت ترويض هذا الكاتب العظيم وطمس بصيرته دون قصد. هذا ما يحدث للفنانين الموظفين في كل زمان ومكان. عندما تلغي الوظيفة إبداعهم أو تحد منه وتروضه دون أن ينتبهوا لذلك. وهذا ما يحدث لمن ينالون جوائز الحكام.

الفنان حين يؤدي دوره بإخلاص فإنه يصطدم بالحاكم ومن المستحيل التوفيق بين ممارسة الحرية والإبداع وإرضاء الحاكم. لأن الحاكم لا يتنازل ويستمر في مواصلة جهوده ومساعيه لتدجين الفنان وترويضه وتوظيف أدواته الفنية في تزيين الواقع (وإن كان مراً) والمحافظة عليه. هذا السعي لتدجين الفن وترويضه لا يحدث فقط في الأنظمة الرجعية وإنما يحدث وبنفس الوتيرة في الأنظمة الثورية ولكن على مستوى أرقى وأنقى. لأن ما يريده الحاكم أي حاكم سواء كان رجعياً أم ثورياً هو الفنان الموالي صاحب الفكر المروض والمدجن وليس الفنان الحر صاحب الفكر المحلق المبدع الذي لا يقبل إلا بالتغيير المتواصل نحو الأفضل.

وبما أن الفن هو الذي يوجه المجتمعات ويسير بها، وف مقمتها، نحو التغيير فمن المهم أن يظل حراً طليقاً يخافه الحاكم ويسعى إلى كسب وده بواسطة تطبيق ما ينادي به. ما يحدث في عالمنا العربي أن الفن يستجدي الحاكم لكسب رضاه ويهرول لنيل جوائزة وفتات موائده حتى عندما تكون هذه الجوائز وهذا الفتات مغمسة بدماء الشعوب.

إن الوظائف الحكومية والأحزاب السياسية والدينية والمؤسسات والأطر المدعومة من السلطة ما هي إلا حضانات لترويض الفن وتدجينه وما هي إلا دفيئات لتطوير واحتضان الفن الذي يسير في مؤخرة الشعوب مادحاً السلطة ومكرساً وجودها. م بقلألم يقل المثل الشعبي " من يأكل من خبز السلطان يضرب بسيفه"؟

فحتى لا نضرب بسيف السلطان يجب أن نبتعد عن وظائفه ونرفض جوائزه كأول احتجاج على سلطته الغاشمة. وإلا فقد سقطنا حتى لو لم نشعر بالسقوط.  

 

 

 

                      الفن بين الحرية والموالاة

                                       حسين فاعور الساعدي-الجليل

في كل زمان وفي كل مكان كان وسيظل ذلك السجال بين الفنان سواء كان شاعراً أو كاتباً أو رساماً وبين الحاكم أو السلطان. هذا يريد منه ليس تفكيره الحر وإنما تفكيره الموالي، وذاك يحاول الإفلات بجلده ليسبح في فضاء حريته المطلق. وبما أن وظيفة الفن هي توجيه الفكر وتربية الوعي فإن الحاكم لا يتوانى عن السعي المتواصل لتحجيم ذلك التوجيه والسيطرة والتحكم على سبل تلك التربية. من المفروض بالفنان الحقيقي أن يكون إنساناً غير عادي لا يهمه بريق المال ولا بريق السلطة كبقية بني البشر، بل كل ما يهمه هو حريته المطلقة التي لا حدود لها والتي لا يقبل مقايضتها بالمال أو بالمركز. هذه الحرية المطلقة هي الوحيدة القادرة أن توفر له سبل الإبداع وأدوات التغيير، وتمنع السيطرة عليه ليظل عصياً على التطويع. الحرية المطلقة هي الدفيئة والحاضنة للخيال الضروري لخلق الوعي وإطلاق الفكر.

كيف يمكن تطبيق هذا الكلام الجميل البعيد عن الواقع المر الذي نعيشه؟ ماذا مع رغيف الخبز الذي اهتم الحاكم ان يجعله شغلنا الشاغل ليمنعنا من التفكير بالحرية؟

لا شك أن الصراع بين سلطة المادة وسلطة الروح كان وسيظل ما دام هنالك حاكم ومحكوم. الحاكم يحاول المحافظة على ما هو موجود وذلك بتجميله ثقافياً بواسطة من يملكون أدوات التجميل من الفنانين على مختلف مشاربهم. لذلك يلجأ إلى رشوتهم بمختلف الوظائف والمراكز أو بمنحهم الجوائز والمنح ليحد من مجال خيالهم وليروض حرياتهم بعد شراء عواطفهم. وهنا يحضرني ما تمناه توفيق الحكيم لنفسه بسبب علاقته الخاصة بجمال عبد الناصر وحبه الشديد لهذا الرجل العظيم: "إنني أرجو أن يبرئ التاريخ عبد الناصر لأني أحبه بقلبي، ولكني أرجو من التاريخ ألا يبرئ شخصاً مثلي، يحسب من المفكرين، وقد أعمته العاطفة عن الرؤية ففقد الوعي بما يحدث حوله"

جمال عبد الناصر لم يبق جائزة ولا منحة إلا وقدمها لهذا الكاتب الكبير ليس بقصد ترويضه وإنما تقديراً وإعجاباً. لكن النتيجة كانت ترويض هذا الكاتب العظيم وطمس بصيرته دون قصد. هذا ما يحدث للفنانين الموظفين في كل زمان ومكان. عندما تلغي الوظيفة إبداعهم أو تحد منه وتروضه دون أن ينتبهوا لذلك. وهذا ما يحدث لمن ينالون جوائز الحكام.

الفنان حين يؤدي دوره بإخلاص فإنه يصطدم بالحاكم ومن المستحيل التوفيق بين ممارسة الحرية والإبداع وإرضاء الحاكم. لأن الحاكم لا يتنازل ويستمر في مواصلة جهوده ومساعيه لتدجين الفنان وترويضه وتوظيف أدواته الفنية في تزيين الواقع (وإن كان مراً) والمحافظة عليه. هذا السعي لتدجين الفن وترويضه لا يحدث فقط في الأنظمة الرجعية وإنما يحدث وبنفس الوتيرة في الأنظمة الثورية ولكن على مستوى أرقى وأنقى. لأن ما يريده الحاكم أي حاكم سواء كان رجعياً أم ثورياً هو الفنان الموالي صاحب الفكر المروض والمدجن وليس الفنان الحر صاحب الفكر المحلق المبدع الذي لا يقبل إلا بالتغيير المتواصل نحو الأفضل.

وبما أن الفن هو الذي يوجه المجتمعات ويسير بها، وف مقمتها، نحو التغيير فمن المهم أن يظل حراً طليقاً يخافه الحاكم ويسعى إلى كسب وده بواسطة تطبيق ما ينادي به. ما يحدث في عالمنا العربي أن الفن يستجدي الحاكم لكسب رضاه ويهرول لنيل جوائزة وفتات موائده حتى عندما تكون هذه الجوائز وهذا الفتات مغمسة بدماء الشعوب.

إن الوظائف الحكومية والأحزاب السياسية والدينية والمؤسسات والأطر المدعومة من السلطة ما هي إلا حضانات لترويض الفن وتدجينه وما هي إلا دفيئات لتطوير واحتضان الفن الذي يسير في مؤخرة الشعوب مادحاً السلطة ومكرساً وجودها. م بقلألم يقل المثل الشعبي " من يأكل من خبز السلطان يضرب بسيفه"؟

فحتى لا نضرب بسيف السلطان يجب أن نبتعد عن وظائفه ونرفض جوائزه كأول احتجاج على سلطته الغاشمة. وإلا فقد سقطنا حتى لو لم نشعر بالسقوط.