أدب الموظفين

3/22/2019 10:16:16 AM بواسطة حسين


                       أدب الموظفين

                                      حسين فاعور الساعدي-الجليل

من بين ما علق بالذاكرة من أيام دراستي الجامعية مشهد متكرر لطلاب كانوا يرفضون أخذ المنشور الداعي لمظاهرة، الذي كنا نوزعه عند مداخل الجامعة. مع الوقت عرفنا أن هؤلاء الأخوة كانوا معلمين في وزارة المعارف ولا يستطيعون التدخل بالسياسة. لم أنس ذلك وما زلت أذكره لأن من بين هؤلاء الأخوة من أصبح أديباً له مكانته ومنهم من ترأس فيما بعد أطراً أدبية لها سمعتها.

وما الإشكال في ذلك؟

لا أعرف إن كان هنالك إشكال لكنني متأكد أن هذا الموظف، الذي مر بالكثير من العقبات والعوائق حتى حصل على الوظيفة، قد أصابه تغيير ما في وعيه الداخلي أو في لا وعيه. هذا التغيير قد يكون سلبيا وقد يكون إيجابياً. فقد يصاب بالنقمة الضرورية والمفيدة للفنان أو قد يصاب بالإذعان والإحباط القاتل للفنان.

وحتى لا يتهمني بعض الأخوة ويبدءون  بمهاجمتي فسأتحدث عن نفسي وعن تجربتي: أنهيت دراستي الجامعية لكنني لم أجد لي عملا كالكثيرين غيري فذهبت للعمل في البناء والحدادة، إلى أن جاءني من اقترح علي أن أتقدم بطلب لوزارة التعليم وهو المجال الوحيد تقريباً المفتوح أمام الجامعيين العرب هنا في الداخل. بدأت عملي في إحدى المدارس الابتدائية. وقد كنت في تلك الفترة أكتب الشعر وأنشره في جريدة الاتحاد الحيفاوية. بعد فترة من بداية عملي جاءني المدير وأخبرني أن المسئولين في الوزارة غير راضين عما أكتب. لم أهتم بأقواله فجاءني بعد فترة ليقول لي أن موديل شَعري (وليس شِعري) الطويل قليلاً، وقد كنت أعتز به كثيراً، لا يتناسب وعملي!. أكملت سنة من العمل لأجد نفسي في نهايتها دون عمل بعد أن أخبروني أن لا مكان لي بالوزارة. كانت ضربة ليست قاتلة ولكنها مؤلمة. عدت إلى العمل في البناء والحدادة لكنني وجدت صعوبة بالغة بعد أن تذوقت طعم الوظيفة. فاضطررت أن أعود إلى الجامعة لتغيير مهنتي. تخصصت في العمل الاجتماعي البعيد عن وزارة المعارف المهمة والحساسة.  بدأت عملي في وزارة الرفاه الاجتماعي عاملاً اجتماعياً وهي وزارة هامشية وغير حساسة لكنني وجدت نفسي مقيداً بقوانين كثيرة يجب أن يلتزم بها موظف الدولة. هذه القوانين تضر بمن يريد الكتابة وتحد من إبداعه. لم يضايقني أحد ولم يتدخل أحد بما أكتب لكن لاوعيي كان يتدخل. بقيت على هذه الحال عشر سنوات إلى أن انتقلت للعمل في السلطات المحلية، لأكون في مواجهة مباشرة مع الفوضى والتخلف وجلد الذات. هذا المشوار أوصلني إلى قناعة تامة أن الوظيفة هي عائق من عوائق الإبداع، وقد تكون نقطة تحول في مسيرة أي كاتب. نقطة تحول سلبية وأشدد على سلبية.    

من حق الفنان أو الأديب أن يكون موظفاً لكن من يضمن إلغاء الرغبة الدائمة والمتواصلة من ناحية السلطة الحاكمة أو من ناحية المسئول المباشر بترويض أو بتدجين وخصي الأديب أو الفنان المرتبط معها بدخل شهري هو مصدر حياته وحياة عائلته؟. الوظيفة هي فرصة الحاكم أو المسئول الذهبية لتجنيد قلم الموظف لخدمة مصالحة أو على الأقل وفي أحسن الأحوال عدم المس بهذه المصالح.

في جميع أنحاء العالم الباب مفتوح أمام المتعلمين للوصول إلى وظائف كثيرة ومتنوعة غير وظيفة المعلم الحساسة والمراقبة. وهذا قد يوفر لهم مساحة معينة من حرية التعبير والإبداع. فكلما كانت الوظيفة حساسة وذات تأثير، كوظيفة المعلم، كلما زادت مراقبة الحاكم للأديب الموظف وزادت رغبته ومحاولاته لترويضه، لأن تأثيره وهو في هذه الوظيفة مباشر ويمس مصالحه في الصميم.

هنا في الداخل المجال الوحيد تقريباً المفتوح أمام الجامعيين أو المتعلمين هو سلك التعليم لذلك نجد أن الأغلبية الساحقة من الأدباء والفنانين هم معلمون يعملون لدى وزارة المعارف التي تعتبر ثاني وزارة بعد وزارة الأمن من حيث الأهمية. لذلك لا أشك للحظة أن إنتاج هذه الشريحة التي أحترمها قد تأثر تأثراً مباشراً بذلك. حتى عندما يكون لهذا الإنتاج مميزاته الإبداعية يظل في نفس الوقت عليه الكثير من المآخذ التي لم تُدْرس بشكل أكاديمي ومهني. أعتقد إنني أفتح باباً مغلقاً ليس بالصدفة. باباً يتم إغلاقه عن ترصد وسبق إصرار. أعرف ان فتحه ليس بالهين وسيعرضني للكثير من العداوات. لكنني قررت فتحه للأسباب الآتية:

  • سأتجرأ وأقول أن السبب الرئيسي لهذه الفوضى والتدني في الساحة الأدبية يعود إلى كون عدد كبير من الفنانين والكتاب هم موظفون وبالتحديد هم معلمون. فأساليب التوظيف ... والمشاحنات والصراعات غير النزيهة حول المواقع والمراكز في سلك التعليم، والاستهتار الذاتي بالمهنة وغير ذلك، كلها أساليب يمارسها نفس الشخوص في الساحة الأدبية.
  • إذا ما انتبهنا إلى حالة التدني في جميع المستويات التي يعاني منها جهاز التعليم عندنا رغم الميزانيات الوفيرة فإننا ندرك بشكل جلي وواضح أن ما يجري في ساحتنا الأدبية ما هو إلا نسخ وإلصاق لما يجري في ساحتنا التعليمية وعلى أيدي الشخوص ذاتهم في معظم الحالات. مثلاً: يغضون الطرف عن الطلاب الذين يمارسون الغش في امتحان البجروت ويغضون الطرف بل يحضنون الشاعرات اللاتي يشترين الشعر!
  • هذه الفوضى عندنا هنا في الداخل وهذا التدني المريع في المشهد الثقافي أحبط القراء وخنق المبدعين وخلق واقعاً من النفاق والكذب والدجل أعطى المجال للكثيرين من المفلسين التافهين نفش ريشهم، وتحويل الأدب إلى وسيلة للكسب الرخيص. الوظيفة للكسب إذن ما المانع أن يكون الفن أو الأدب للكسب أيضاً؟
  • غياب الناقد الجريء والمهني، الذي لم يكن صدفة، خلق واقعاً من "الدعارة الأدبية" له ضوابطه وقوانينه التي تتطابق تماماً مع ضوابط وقوانين دور الدعارة: مروجون – حراس ومستهلكون، قابضون ودافعون ألخ. الناقد الأدبي غاب لأن الناقد التعليمي غاب فكم من معلم سيء ومفتش من أسوأ ما يكون لم يحاسبهم أحد ولم يعاقبوا وإنما تمت ترقيتهم؟ وكم من معلم ضحى وأبدع في مجال التعليم لم يكافئه أحد بل تم تحجيمه؟ هذا الوضع تم تطبيقه في الساحة الأدبية، فالفاشلون تقدموا واحتلوا الواجهة والمبدعون تم تهميشهم وقهرهم.
  • كنا أمام واقع أن من حق الموظف وبالذات المعلم أن يكون أديباً، فسقطنا إلى واقع أن من حق الموظف أو المعلم فقط أن يكون أديباً. هذا الواقع خلق مراكز قوى تدافع بشكل أعمى وتهاجم بشكل غريزي بعيد عن العقل والمنطق (حكلي تا احكلك). وقد ارتاحت السلطة لذلك كما يبدو وبدأت بتوزيع الجوائز يميناً وشمالاً لتزيد المشهد بؤساً وضبابيةً.

صحيح أن تلك الأيام التي تحدثت عنها (سنوات السبعين) قد ولت واليوم توجد نقابات تدافع عن الموظفين، إلا أن الفساد لا يزال مستشرياً وهو أعمق مما نتصور. لذلك فأنني على قناعة تامة أن هنالك تناقض بين الوظيفة والقلم. لأن الفنان يجب أن يكون حراً طليقاً إذا أراد أن يحلق في عالم الإبداع. فمن يريد أن يبدع عليه أن يذهب للعمل الحر (يبيع أحذية مثلاً) بعيداً عن قرف المدير والرئيس والمفتش والمسئول. هذا إذا كنا نؤمن أن الفن ليس للتسلية وإنما له وظيفة أكبر من ذلك بكثير، وظيفة جلب الثورات الاجتماعية وإحداث التغيير نحو الأفضل. الفن أو الأدب هو المطر الذي تنبت التغييرات في أعقابه وما أحوجنا لهذه التغييرات بعد ما وصلنا إليه من عنف وجريمة لا تليق بمجتمعنا ولم نعرفها من قبل. لقد تحدثت عن نفسي فاقرأوا وناقشوا ما كتبت ولا تسحبوا خناجركم وسيوفكم.