الفنان والجمهور

3/22/2019 10:26:14 AM بواسطة حسين


 

                  الفنان والجمهور: من يصنع من؟

                                    حسين فاعور الساعدي-الجليل

أذكر تلك الأيام المفعمة بالعزة والكبرياء يوم كنا نقف بالآلاف وتحت المطر أحيانا أو في حر الشمس لنستمع لمحمود درويش وهو يلقي واحدة من قصائده. أذكر يوم صاح بأعلى صوته: "سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف. وأطفالي ثمانية. وتاسعهم سيأتي بعد صيف" كان يتحدى الواشي الذي اندس بين الجمهور ويتحدى رجال الشرطة الذين يستمعون له وينتظرون انتهاء المهرجان لاعتقاله.

فماذا حدث؟ ما الذي تغير: الشاعر أم الجمهور؟

أستطيع القول بكل ثقة أن الشاعر هو الذي تغير. لأن الجمهور لا يزال مولعاً بالشعر ومولعاً بحب الوطن وزادت فيه نسبة المتعلمين والمثقفين. صحيح أن الظروف تغيرت أيضاً فلم يعد الحزب الشيوعي (الجبهة اليوم) يفتتح مؤتمراته بالشعر ولم يعد يرعى الشعراء كتلك الأيام. لكن السبب هو الشاعر الذي غاب ولم تعد الأحزاب السياسية اليوم بحاجة له لتجنيد الجماهير. الشاعر اليوم أصبح عبئاً على الأحزاب تخاف أن يكون ليس شعره فقط بل حتى تواجده على المنصة منفراً للجمهور وليس معبئاً ومجنداً له. فما السبب؟

محمود درويش لم يكن معلماً أو عاملا اجتماعياً يخاف على وظيفته، فيكتب ما يكتب بخوف وتردد. حتى لم يكن له أولاد أو زوجة تطالبه بدخل شهري. كان حراً من كل هذه القيود الثقيلة التي ثبت أنها أصعب وأثقل بكثير من قيود السجون والزنازين. لذلك قال ما قال، وألهب من ألهب لأنه قاله بصدق وجرأة.

بعد درويش ظهر الشاعر والقاص والرسام الموظف الذي حاول الجمع بين الفن والوظيفة. خصوصاً الوظيفة التي جاءت بالواسطة والتنسيق مع الجهات الأمنية وبعد معاناة ومكابدة.

أصبح هاجس الفنان الذي يريد ان يكتب أو يرسم ليس التعبير عما يشعر به أو يراه بصدق وكيفما يراه، وإنما كيف لا يُغضب مفتشه أو المسئول عنه الذي هو ليس إلا رجل أمن يتابعه ويرصد خطاه. لذلك غاب الصدق وظهر ما سأسميه من الأن وصاعداً: "أدب موظفي الدولة".

من أهم مميزات هذا الأدب، ليس هنا فقط بل في كل أنحاء العالم، هو المراوغة ولا أقول الرمزية لأن الرمزية هي ركن هام وركيزة أساسية في كل أنواع الفنون. بدونها يفقد الفن رونقه وجاذبيته.

أدب موظفي الدولة في هذه البلاد لم يدرس من هذه الزاوية الخاصة أضف إلى ذلك أنه حالة تكاد تكون فريدة من نوعها في العالم. لأن لهذا الفن أو الأدب خصوصيته النابعة من الانفصام غير المعلن أو اللاوعيي في الانتماء أو في الرضا الذاتي. فهنالك مساحة من الحرية في التعبير غير موجودة في الكثير من دول الجوار تجعل الفنان في هذه البلاد يشعر بها ويخجل من التصريح بها لعدم امتلاكه الجرأة ولخوفه من أن يتهم بالترويض خصوصاً وهو يعرف في داخله وبينه وبين نفسه أنه حاصل، لكن الدولة ليست دولته وهي التي شردت شعبه ومن المفروض فيه أن يكون ناقماً عليها حتى يرضي الجمهور لذلك يلجأ إلى "النقمة المزيفة". وبما أن الجمهور يملك الذكاء الكافي تنكشف اللعبة أو الكذبه ويكون الطلاق بين الجمهور والفنان.  

هذه المراوغة تظل في نطاق المعقول ما دام الفنان يحتفظ بغضبه ونقمته الحقيقية الصادقة وليس المزيفة. هذا الغضب وهذه النقمة التي بدونهما يفقد الفنان دافعاً أساسيا ومركزياً من دوافعه للمطالبة بالتغيير، فيصبح إنتاجه إما سطحياً وضحلا وإما بعيداً عن هموم الجمهور وطموحاته وحلمه في التغيير.ً لذلك طورت السلطة، أي سلطة، أساليبها في خلق نوع من الطمأنينة الداخلية أو الرضا الداخلي الحقيقي لدى الفنان لتجعله، من غير قصد، يحس بالرضا ولا يشعر بالنقمة. وهذه هي البداية لترويض هذا الفنان وتدجينه. وهي السبب الرئيسي للضحالة والسطحية. وطبعاً الهدف النهائي للسلطة، أي سلطة حتى الثورية منها، هو جعل الفنان يضرب بسيفها بعد أن شبع من خبزها. بهذه الطريقة يتم ترويض السياسيين أيضاً وهو ما يجري للسلطة الفلسطينية على سبيل المثال.        

صار الفن وسيلة للكسب حتى لو كان هذا الكسب قادما من سلطة غاشمة. وصار عند الفنان ما يخاف عليه ويحسب الف حساب كيف يحافظ عليه. فقد الفنان غضبه ونقمته فلم يعد يطالب بالتغيير. صار بعيداً عن الجمهور لا يشعر بما يشعر ولا يطالب له بما يرغب. صار هو في واد والجمهور في واد. فأين هم الشعراء مما يجري من مآسي؟ كبف لم يرق الشعر، إلا فيما ندر، إلى مستوى الحدث؟ لذلك نجد اليوم أن المشاركين في الندوات الشعرية من الجمهور أقل من الشعراء المشاركين في تلك الندوات وهو أمر مخجل ومخزً جعل الذين عاشوا مهرجانات محمود درويش من أمثالي يخجلون من المشاركة في مثل هذه الندوات. 

محمود درويش كان يحترم الجمهور ويعيش هاجس كيف يرضيه، لذلك توافد المئات والآلاف لندواته لأنهم بادلوه الحب بحب والاحترام بمثله. محمود درويش لم يفكر كيف لا يغضب السلطة. ولم يفكر بنيل جوائزها ومنحها لذلك ظل حراً طليقا شامخاً وفي المقدمة.

لذلك أقول جازما أن الجمهور لم يتغير وإنما الشعراء هم الذين تغيروا وهم الذين يقترفون المجازر كل يوم بحق الشعر. وإذا استمروا على هذه الوتيرة فسيقضون على هذا الفن قضاءً تاماً وهو ما يريده الحكام في دولنا، ليواصلوا جلد شعوبهم ونهب خيراتها. فالفن سواء كان شعراً أم نثراً أم رسماً هو سلاح التغيير وهمّ الحكام هو إبطال مفعول هذا السلاح وقد نجحوا في ذلك كثراً.

 

                  الفنان والجمهور: من يصنع من؟

                                    حسين فاعور الساعدي-الجليل

أذكر تلك الأيام المفعمة بالعزة والكبرياء يوم كنا نقف بالآلاف وتحت المطر أحيانا أو في حر الشمس لنستمع لمحمود درويش وهو يلقي واحدة من قصائده. أذكر يوم صاح بأعلى صوته: "سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف. وأطفالي ثمانية. وتاسعهم سيأتي بعد صيف" كان يتحدى الواشي الذي اندس بين الجمهور ويتحدى رجال الشرطة الذين يستمعون له وينتظرون انتهاء المهرجان لاعتقاله.

فماذا حدث؟ ما الذي تغير: الشاعر أم الجمهور؟

أستطيع القول بكل ثقة أن الشاعر هو الذي تغير. لأن الجمهور لا يزال مولعاً بالشعر ومولعاً بحب الوطن وزادت فيه نسبة المتعلمين والمثقفين. صحيح أن الظروف تغيرت أيضاً فلم يعد الحزب الشيوعي (الجبهة اليوم) يفتتح مؤتمراته بالشعر ولم يعد يرعى الشعراء كتلك الأيام. لكن السبب هو الشاعر الذي غاب ولم تعد الأحزاب السياسية اليوم بحاجة له لتجنيد الجماهير. الشاعر اليوم أصبح عبئاً على الأحزاب تخاف أن يكون ليس شعره فقط بل حتى تواجده على المنصة منفراً للجمهور وليس معبئاً ومجنداً له. فما السبب؟

محمود درويش لم يكن معلماً أو عاملا اجتماعياً يخاف على وظيفته، فيكتب ما يكتب بخوف وتردد. حتى لم يكن له أولاد أو زوجة تطالبه بدخل شهري. كان حراً من كل هذه القيود الثقيلة التي ثبت أنها أصعب وأثقل بكثير من قيود السجون والزنازين. لذلك قال ما قال، وألهب من ألهب لأنه قاله بصدق وجرأة.

بعد درويش ظهر الشاعر والقاص والرسام الموظف الذي حاول الجمع بين الفن والوظيفة. خصوصاً الوظيفة التي جاءت بالواسطة والتنسيق مع الجهات الأمنية وبعد معاناة ومكابدة.

أصبح هاجس الفنان الذي يريد ان يكتب أو يرسم ليس التعبير عما يشعر به أو يراه بصدق وكيفما يراه، وإنما كيف لا يُغضب مفتشه أو المسئول عنه الذي هو ليس إلا رجل أمن يتابعه ويرصد خطاه. لذلك غاب الصدق وظهر ما سأسميه من الأن وصاعداً: "أدب موظفي الدولة".

من أهم مميزات هذا الأدب، ليس هنا فقط بل في كل أنحاء العالم، هو المراوغة ولا أقول الرمزية لأن الرمزية هي ركن هام وركيزة أساسية في كل أنواع الفنون. بدونها يفقد الفن رونقه وجاذبيته.

أدب موظفي الدولة في هذه البلاد لم يدرس من هذه الزاوية الخاصة أضف إلى ذلك أنه حالة تكاد تكون فريدة من نوعها في العالم. لأن لهذا الفن أو الأدب خصوصيته النابعة من الانفصام غير المعلن أو اللاوعيي في الانتماء أو في الرضا الذاتي. فهنالك مساحة من الحرية في التعبير غير موجودة في الكثير من دول الجوار تجعل الفنان في هذه البلاد يشعر بها ويخجل من التصريح بها لعدم امتلاكه الجرأة ولخوفه من أن يتهم بالترويض خصوصاً وهو يعرف في داخله وبينه وبين نفسه أنه حاصل، لكن الدولة ليست دولته وهي التي شردت شعبه ومن المفروض فيه أن يكون ناقماً عليها حتى يرضي الجمهور لذلك يلجأ إلى "النقمة المزيفة". وبما أن الجمهور يملك الذكاء الكافي تنكشف اللعبة أو الكذبه ويكون الطلاق بين الجمهور والفنان.  

هذه المراوغة تظل في نطاق المعقول ما دام الفنان يحتفظ بغضبه ونقمته الحقيقية الصادقة وليس المزيفة. هذا الغضب وهذه النقمة التي بدونهما يفقد الفنان دافعاً أساسيا ومركزياً من دوافعه للمطالبة بالتغيير، فيصبح إنتاجه إما سطحياً وضحلا وإما بعيداً عن هموم الجمهور وطموحاته وحلمه في التغيير.ً لذلك طورت السلطة، أي سلطة، أساليبها في خلق نوع من الطمأنينة الداخلية أو الرضا الداخلي الحقيقي لدى الفنان لتجعله، من غير قصد، يحس بالرضا ولا يشعر بالنقمة. وهذه هي البداية لترويض هذا الفنان وتدجينه. وهي السبب الرئيسي للضحالة والسطحية. وطبعاً الهدف النهائي للسلطة، أي سلطة حتى الثورية منها، هو جعل الفنان يضرب بسيفها بعد أن شبع من خبزها. بهذه الطريقة يتم ترويض السياسيين أيضاً وهو ما يجري للسلطة الفلسطينية على سبيل المثال.        

صار الفن وسيلة للكسب حتى لو كان هذا الكسب قادما من سلطة غاشمة. وصار عند الفنان ما يخاف عليه ويحسب الف حساب كيف يحافظ عليه. فقد الفنان غضبه ونقمته فلم يعد يطالب بالتغيير. صار بعيداً عن الجمهور لا يشعر بما يشعر ولا يطالب له بما يرغب. صار هو في واد والجمهور في واد. فأين هم الشعراء مما يجري من مآسي؟ كبف لم يرق الشعر، إلا فيما ندر، إلى مستوى الحدث؟ لذلك نجد اليوم أن المشاركين في الندوات الشعرية من الجمهور أقل من الشعراء المشاركين في تلك الندوات وهو أمر مخجل ومخزً جعل الذين عاشوا مهرجانات محمود درويش من أمثالي يخجلون من المشاركة في مثل هذه الندوات. 

محمود درويش كان يحترم الجمهور ويعيش هاجس كيف يرضيه، لذلك توافد المئات والآلاف لندواته لأنهم بادلوه الحب بحب والاحترام بمثله. محمود درويش لم يفكر كيف لا يغضب السلطة. ولم يفكر بنيل جوائزها ومنحها لذلك ظل حراً طليقا شامخاً وفي المقدمة.

لذلك أقول جازما أن الجمهور لم يتغير وإنما الشعراء هم الذين تغيروا وهم الذين يقترفون المجازر كل يوم بحق الشعر. وإذا استمروا على هذه الوتيرة فسيقضون على هذا الفن قضاءً تاماً وهو ما يريده الحكام في دولنا، ليواصلوا جلد شعوبهم ونهب خيراتها. فالفن سواء كان شعراً أم نثراً أم رسماً هو سلاح التغيير وهمّ الحكام هو إبطال مفعول هذا السلاح وقد نجحوا في ذلك كثراً.